مصيبة لما أرسلنا ، ولكن اختيرت هذه الطريقة لنكتة : وهي أنهم لو لم يعاقبوا مثلا على كفرهم وقد عاينوا ما ألجئوا به إلى العلم اليقين : لم يقولوا (لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً) وإنما السبب في قولهم هذا هو العقاب لا غير لا التأسف على ما فاتهم من الإيمان بخالقهم. وفي هذا من الشهادة القوية على استحكام كفرهم ورسوخه فيهم ما لا يخفى ، كقوله تعالى (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ). ولما كانت أكثر الأعمال تزاول بالأيدى : جعل كل عمل معبرا عنه باجتراح الأيدى وتقديم الأيدى وإن كان من أعمال القلوب ، وهذا من الاتساع في الكلام وتصيير الأقل تابعا للأكثر وتغليب الأكثر على الأقل.
(فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ)(٤٨)
(فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُ) وهو الرسول المصدق بالكتاب المعجز مع سائر المعجزات وقطعت معاذيرهم وسدّ طريق احتجاجهم (قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى) من الكتاب المنزل جملة واحدة ، ومن قلب العصاحية وفلق البحر وغيرهما من الآيات ، فجاءوا بالاقتراحات المبنية على التعنت والعناد ، كما قالوا : لو لا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك ، وما أشبه ذلك (أَوَلَمْ يَكْفُرُوا) يعنى أبناء جنسهم ومن مذهبهم مذهبهم وعنادهم عنادهم ، وهم الكفرة في زمن
__________________
ـ تذكر إحداهما الأخرى إذا ضلت ، وكان بعض النحاة يورد هذه الآية إشكالا على النحاة وعلى أهل السنة من المتكلمين ، فيقول : «لو لا» عند أهل الفن تدل على امتناع جوابها لوجود ما بعدها ، وحينئذ يكون الواقع بعدها في الآية موجودا وهو عقوبة هؤلاء المذكورين بتقدير عدم بعثة الرسل ، وجوابها المحذوف غير واقع وهو عدم الإرسال ، لأنه ممتنع بالأولى. ومتى لم يقع عدم الإرسال كان الإرسال واقعا ضرورة ، فيشكل الواقع بعدها على أهل السنة ، لأنهم يقولون : لا ظلم قبل بعثه الرسل ، فلا تتصور العقوبة بتقدير عدم البعثة ، وذلك لأنها واقعة جزاء على مخالفة أحكام الشرع ، فان لم يكن شرع فلا مخالفة ولا عقوبة. ويشكل الجواب على النحاة ، لأنه يلزم أن لا يكون واقعا وهو عدم بعثة الرسل ، لكن الواقع بعدها يقتضى وقوعه ، ثم كان مورد هذا الاشكال يجيب عنه بتقدير محذوف. والأصل : ولو لا كراهة أن تصيبهم مصيبة وحينئذ يزول الاشكال عن الطائفتين. والتحقيق عندي في الجواب خلاف ذلك ، وإنما جاء الاشكال من حيث عدم تجويز النحاة لمعنى لو لا أن يقولون : أنها تدل على أن ما بعدها موجود وأن جوابها ممتنع به ، والتحرير في معناها أنها تدل على أن ما بعدها مانع من جوابها ، عكس «لو» فان معناها لزوم جوابها لما بعدها ، ثم المانع قد يكون موجودا وقد يكون مفروضا ، والآية من قبيل فرض وجود المانع ، وكذلك اللزوم في «لو» قد يكون الشيء الواحد لازما لشيئين ، فلا يلزم نفيه من نفى أحد ملزوميه. وعلى هذا التحرير يزول الاشكال الوارد على «لو» في قوله : نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه ، فتأمل هذا الفصل فتحته فوائد للمتأمل ، والله الموفق.