المحذور رميه الغرض الذي كان ينتجه قريش فهو نظير (قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) [التوبة : ٣٠ ، المنافقون : ٤] أو ثناء عليه تهكما على نحو قاتله الله ما أشجعه أو حكاية لما كرروه على سبيل الدعاء عند سماع كلمته الحمقاء فالعرب تقول قتله الله ما أشجعه وأخزاه الله ما أشعره يريدون أنه قد بلغ المبلغ الذي هو حقيق بأن يحسد ويدعو عليه حاسده بذلك وما له على ما قيل إلى الأول وإن اختلف الوجه روي أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبيصلىاللهعليهوسلم فقرأ عليه القرآن فكأنه رق له فبلغ ذلك أبا جهل فقال : يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا فيعطوكه فإنك أتيت محمدا لتصيب مما عنده قال قد علمت قريش أني من أكثرها مالا قال فقيل فيه قولا يبلغ قومك إنك منكر له وأنك كاره له قال وما ذا أقول فو الله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني لا برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا وو الله إن لقوله الذي يقوله حلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسلفه وإنه ليعلو ولا يعلى وإنه ليحطم ما تحته قال : لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه قال: دعني حتى أفكر فلما فكر قال ما هو إلّا سحر يؤثر فعجّوا (١) بذلك وقال محيي السنة لما نزل على النبيّصلىاللهعليهوسلم (حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) ـ إلى قوله تعالى ـ (الْمَصِيرُ) [غافر : ١ ـ ٣] قام النبي صلىاللهعليهوسلم في المسجد والوليد قريب منه يسمع قراءته ، فلما فطن النبيّ عليه الصلاة والسلام لاستماعه أعاد القراءة فانطلق الوليد إلى مجلس قومه بني مخزوم فقال : والله لقد سمعت من محمد آنفا كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق. وإنه ليعلو وما يعلى. فقالت قريش : صبأ والله الوليد والله لتصبأن قريش كلهم فقال أبو جهل : أنا أكفيكموه فقعد إليه حزينا وكلمه بما أحماه فقام فأتاهم فقال : تزعمون أن محمدا مجنون فهل رأيتموه يخنق ، وتقولون إنه كاهن فهل رأيتموه قط يتكهن ، وتزعمون أنه شاعر فهل رأيتموه يتعاطى شعرا ، وتزعمون أنه كذاب فهل جربتم عليه شيئا من الكذب؟ فقالوا في كل ذلك اللهم لا ، ثم قالوا فما هو؟ ففكر فقال : ما هو إلّا ساحر أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه وما الذي يقوله إلّا سحر يأثره عن مسيلمة وعن أهل بابل فارتج النادي فرحا وتفرقوا معجبين بقوله متعجبين منه (ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) تكرير للمبالغة كما هو معتاد من أعجب غاية الإعجاب والعطف ب (ثُمَ) للدلالة على تفاوت الرتبة وإن الثانية أبلغ من الأولى فكأنه قيل قتل بنوع ما من القتل لا بل قتل بأشده وأشده ، ولذا ساغ العطف فيه مع أنه تأكيد ونحوه ما في قوله :
وما لي من ذنب إليهم علمته |
|
سوى أنني قد قلت يا سرحة اسلمي |
ألا يا اسلمي ثم اسلمي ثم اسلمي |
|
ثلاث تحيات وإن لم تكلمي |
والإطراء في الإعجاب بتقديره يدل على غاية التهكم به وبمن فرح بمحصول تفكيره. وقال الراغب في غرة التنزيل : كان الوليد بن المغيرة لما سئل عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم قدر ما أتى به من القرآن فقال : إن قلنا شاعر كذبتنا العرب إذا عرضت ما أتى به على الشعر وكان يقصد بهذا التقدير تكذيب الرسول صلىاللهعليهوسلم بضرب من الاحتيال فلذلك كان كل تقدير مستحقا لعقوبة من الله تعالى هي كالقتل إهلاكا له فالأول لتقديره على الشعر أي أهلك إهلاك المقتول كيف قدر وقوله تعالى (ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) لتقديره الآخر فإنه قدر أيضا. وقال : فإن ادعينا أن ما أتى به من كلام الكهنة كذبتنا العرب إذا رأوا هذا الكلام مخالفا لكلام الكهان فهو في تقديره له على كلام الكهنة مستحق من العقوبة لما هو
__________________
(١) فعجّوا : اي ضجّوا.