الذي خلق كل شيء (فَسَوَّى) أي فجعله متساويا وهو أصل معناه والمراد فجعل خلقه كما تقتضيه حكمته سبحانه في ذاته وصفاته وفي معناه ما قيل أي فجعل الأشياء سواء في باب الأحكام والإتقان لا أنه سبحانه أتقن بعضا دون بعض ، وردّ بما دلت عليه الآية من العموم على المعتزلة في زعمهم أن العبد خالق لأفعاله والزمخشري مع أن مذهبه مذهبهم قال هنا بالعموم ولعله لم يرد العموم الحقيقي أو أراده لكن على لمعنى خلق كل شيء إما بالذات أو بالواسطة ، وجعل ذلك في أفعال العباد بأقداره سبحانه وتمكينهم على خلقها باختيارهم وقدرهم الموهوبة لهم ، وعن الكلبي خلق كل ذي روح فسوّى بين يديه وعينيه ورجليه. وعن الزجاج خلق الإنسان فعدّل قامته ولم يجعله منكوسا كالبهائم وفي كل تخصيص لا يقتضيه ظاهر الحذف (وَالَّذِي قَدَّرَ) أي جعل الأشياء على مقادير مخصوصة في أجناسها وأنواعها وأفرادها وصفاتها وأفعالها وآجالها (فَهَدى) فوجه كل واحد منها إلى ما يصدر عنه وينبغي له طبعا أو اختيارا ويسره لما خلق له بخلق الميول والإلهامات ونصب الدلائل وإنزال الآيات ، فلو تتبعت أحوال النباتات والحيوانات لرأيت في كل منها ما تحار فيه العقول وتضيق عنه دفاتر النقول. وأما فنون هداياته سبحانه وتعالى للإنسان على الخصوص ففوق ذلك بمراحل وأبعد منه ثم أبعد وأبعد بألوف من المنازل وهيهات أن يحيط بها فلك العبارة والتحرير ولا يكاد يعلمها إلّا اللطيف الخبير :
أتزعم أنك جرم صغير |
|
وفيك انطوى العالم الأكبر |
وقيل أي والذي قدر الخلق على ما خلقهم فيه من الصور والهيئات ، وأجرى لهم أسباب معاشهم من الأرزاق والأقوات ، ثم هداهم إلى دينه ومعرفة توحيده بإظهار الدلالات والبينات. وقيل قدر أقواتهم وهداهم لطلبها. وعن مقاتل والكلبي قدرهم ذكرانا وإناثا وهدى الذكر كيف يأتي الأنثى وعن مجاهد قدر الإنسان والبهائم وهدى الإنسان للخير والشر والبهائم للمراتع. وعن السدّي قدر الولد في البطن تسعة أشهر أو أقل أو أكثر وهداه للخروج منه للتمام وقيل قدر المنافع في الأشياء وهدى الإنسان لاستخراجها والأولى ما ذكر أولا ولعل ما في سائر الأقوال من باب التمثيل لا التخصيص. وزعم الفرّاء أن في الآية اكتفاء والأصل فهدى وأضل وليس بشيء. وقرأ الكسائي «قدر» بالتخفيف من القدرة أو التقدير (وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى) أي أنبت ما ترعاه الدواب غضا رطبا يرف (فَجَعَلَهُ غُثاءً) هو ما ما يقذف به السيل على جانب الوادي من الحشيش والنبات ، وأصله على ما في المجمع الأخلاط من أجناس شتى والعرب تسمى القوم إذا اجتمعوا من قبائل شتى أخلاطا وغثاء ، ويقال : غثاء بالتشديد وجاء جمعه على أغثاء وهو غريب من حيث جمع فعال على فعال والمراد به هنا اليابس من النبات أي فجعله بعد ذلك يابسا (أَحْوى) من الحوة وهي كما قيل السواد. وقال الأعلم ؛ لون يضرب إلى السواد وفي الصحاح الحوّة السمرة فالمراد بأحوى أسود أو أسمر والنبات إذا يبس اسودّ أو أسمر فهو صفة مؤكدة للغثاء وتفسر الحوة بشدة الخضرة وعليه قول ذي الرمة :
لمياه في شفتيها حوة لعس |
|
وفي اللثات وفي أنيابها شنب |
ولا ينافي ذلك تفسيرها بالسواد لأن شدة الخضرة ترى في بادئ النظر كالسواد ، وجوز كونه حالا من المرعى أي أخرج المرعى حال كونه طريا غضا شديد الخضرة فجعله غثاء ، والفصل بالمعطوف بين الحال وصاحبها ليس فصلا بأجنبي لا سيما وهو حال يعاقب الأول من غير تراخ. وسر التقديم المبالغة في استعقاب حالة الجفاف حالة الرفيف والغضارة كأنه قبل أن يتم رفيقه وغضارته يصير غثاء ومع هذا هو خلاف الظاهر وهذه الأوصاف على ما قيل يتضمن كل منها التدريج ففي الوصف بها تحقيق لمعنى التربية وهي تبليغ الشيء كماله شيئا فشيئا وقوله تعالى (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) بيان لهدايته تعالى شأنه الخاصة برسوله صلىاللهعليهوسلم إثر بيان