المعتزلة بناء على وجوب الأصلح عندهم ، وقيل في توجيهه إنه لو وجب قبولها لوجب قبول هذا التذكر فإنه توبة إذ هي كما بيّن محله في الندم على المعصية من حيث هي معصية ، والعزم على أن لا يعود لها إذا قدر عليها ولم يعتبر أحد في تعريفها كونها في الدنيا وإن كانت النافعة منها لا تكون إلّا فيها وهذا التذكر هو عين الندم المذكور. وقد صرح الضحاك كما أخرجه عنه ابن أبي حاتم بأنه توبة ولم تقبل لعدم ترتب المنفعة عليه التي هي من لوازم القبول ، واعترض بأن المعتزلة إنما يقولون بوجوب قبولها بشرط عدم رفع التكاليف وقيل إن تذكره ليس من التوبة في شيء فإنه عالم بأنها إنما تكون في الدنيا كما يعرب عنه قوله تعالى (يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي) ويعلم ما فيه مما تقدم من توجيه الاستدلال فلا تغفل. وهذه الجملة بدل اشتمال من يتذكر أو استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ منه كأنه قيل : ما ذا يقول عند تذكره؟ فقيل : يقول يا ليتني إلخ. واللام للتعليل والمراد بحياته حياته في الآخرة ، ومفعول (قَدَّمْتُ) محذوف فكأنه قال : يا ليتني قدمت لأجل حياتي هذه أعمالا صالحة انتقع بها فيها. وقيل : اللام للتعليل إلّا أن المعنى يا ليتني قدمت أعمالا صالحة لأجل أن أحيا حياة نافعة ، وقال ذلك لأنه لا يموت ولا يحيا حينئذ وهو كما ترى. ويجوز أن تكون اللام توقيتية مثلها في نحو كتبته لخمس عشرة ليلة مضين من المحرم ، وجئت لطلوع الشمس ويكون المراد بحياته حياته في الدنيا أي يا ليتني قدمت وعملت أعمالا صالحة وقت حياتي في الدنيا لأنتفع بها اليوم ، وليس في هذا التمني شائبة دلالة على استقلال العبد بفعله وإنما يدل على اعتقاد كونه متمكنا من تقديم الأعمال الصالحة ، وإما أن ذلك بمحض قدرته تعالى أو بخلق الله عزوجل عند صرف قدرته الكاسبة إليه فكلا وزعمه الزمخشري دليلا على الاستقلال ورد به على المجبرة وهم عنده غير المعتزلة زعما منه المنافاة بين التمني والحجر. وقد علمت أنه لا دلالة على ذلك. وفي الكشف أن التمني قد يقع على المستحيل على أنه حالتئذ كالغريق هذا وأهل الحق لا يقولون بسلب الاختيار بالكلية.
(فَيَوْمَئِذٍ) أي يوم إذ يكون ما ذكر من الأحوال والأقوال (لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ) الهاء إما لله عزوجل أي لا يتولى عذاب الله تعالى ووثاقه سبحانه أحد سواه عزوجل وكأنه قيل : لا يفعل عذاب الله تعالى ووثاقه ولا يباشرهما أحد ، وذلك لأن الفعل في ضمن كل فعل خاص واستعمل ذلك استعمالا شائعا في مثل :
وقد حيل بين العير والنزوان
وإن نظن إلّا ظنا فالعذاب مفعول به وكذا الوثاق ، وفيه تعظيم عذاب الله تعالى ووثاقه سبحانه لهذا الإنسان الذي شرح من أحواله ما شرح على طريق الكناية. فما ادعاه ابن الحاجب من عدم قوة المعنى على تقدير عود الضمير إليه تعالى بناء على فوات التعظيم الذي يقتضيه السياق للغفول عن نكتة الكناية ، وإما للإنسان الموصوف والإضافة إلى المفعول أي لا يعذب ولا يوثق أحد من الزبانية أحدا من أهل النار مثل ما يعذبونه ويوثقونه كأنه أشدهم عذابا ووثاقا لأنه أشدهم سيئات أفعال وقبائح أحوال وهو وجه حسن بل هو أرجح من الأول على ما سنشير إليه إن شاء الله تعالى. وقرأ ابن سيرين وابن أبي إسحاق وأبو حيوة وابن أبي عبلة وأبو بحرية وسلام والكسائي ويعقوب وسهل وخارجة عن أبي عمرو : «لا يعذب» «ولا يوثق» بالبناء للمفعول فالهاء في عذابه ووثاقه للإنسان الموصوف أي لا يعذب أحد مثل عذابه ولا يوثق بالسلاسل والأغلال مثل وثاقه لتناهيه في كفره وشقاقه ونصب العذاب على المصدرية واقع موقع التعذيب إما لأنه بمعناه في الأصل كالسلام بمعنى