من بين الأمم فيما بين نوح عليهالسلام إلى أمتك يا رسول الله : «هم غر محجلون من أثر الوضوء ليس أحد كذلك غيرهم وأعرفهم أنهم يؤتون كتبهم بأيمانهم» الحديث. وقد تقدم فتذكر والحق أن الجن في هذه الأمور حكمهم حكم الإنس على ما بحثه القرطبي وصرح به غيره نعم الأنبياء والملائكة عليهم الصلاة والسلام لا يأخذون كتابا بل إن السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب ومنهم أو بكر رضي الله تعالى عنه لا يأخذون أيضا كتابا وأول من يؤتي كتابه بيمينه فله شعاع كشعاع الشمس عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كما في الحديث وبعده أو سلمة بن عبد الأشد وأول من يأخذ كتابه بشماله أخوه الأسود بن عبد الأشد الذي مر ذكره غير بعيد والآثار في كيفية وصول الكتب إلى أيدي أصحابها مختلفة فقد ورد أن الريح تطيرها من خزانة تحت العرش فلا تخطئ صحيفة عنق صاحبها وورد أن كل أحد يدعي فيعطى كتابه وجمع بأخذ الملائكة عليهمالسلام إياها من أعناقهم ووضعهم لها في أيديهم والله تعالى أعلم وتمام الكلام في هذا المقام يطلب من محله (فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ) قد تقدم الكلام في (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ) [الواقعة : ٧٥] وما (تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ) المشاهدات والمغيبات وإليه يرجع قول قتادة هو عام في جميع مخلوقاته عزوجل. وقال عطاء ما (تُبْصِرُونَ) من آثار القدرة (وَما لا تُبْصِرُونَ) من أسرار القدرة. وقيل الأجسام والأرواح وقيل الدنيا والآخرة وقيل الإنس والجن والملائكة وقيل الخلق والخالق وقيل النعم الظاهرة والباطنة والأول شامل لجميع ما ذكر وسبب النزول على ما قال مقاتل إن الوليد قال : إن محمدا صلىاللهعليهوسلم ساحر وقال أبو جهل شاعر وقال عتبة كاهن فرد الله تعالى عليهم بقوله سبحانه (فَلا أُقْسِمُ) إلخ (إِنَّهُ) أي القرآن (لَقَوْلُ رَسُولٍ) يبلغه عن الله تعالى فإن الرسول لا يقول عن نفسه (كَرِيمٍ) على الله عزوجل وهو النبي صلىاللهعليهوسلم في قول الأكثرين. وقال ابن السائب ومقاتل وابن قتيبة هو جبريل عليهالسلام وقوله تعالى (وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ) إلخ قيل دليل لما قاله الأكثرون لأن المعنى على إثبات أنه عليه الصلاة والسلام رسول لا شاعر ولا كاهن كما يشعر بذلك سبب النزول وتوضيح ذلك أنهم ما كانوا يقولون في جبريل عليهالسلام أنه كذا وكذا وإنما كانوا يقولونه في النبي صلىاللهعليهوسلم فلو أريد برسول كريم جبريل عليهالسلام لفات التقابل ولم يحسن العطف كما تقول إنه لقول عالم وما هو بقول جاهل ولو قلت وما هو بقول شجاع نسبت إلى ما تكره وتعقبه بعض الأئمة بأن هذا صحيح إن سلم أن المعنى على إثبات رسول لا شاعر ويكون قوله تعالى : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ) لا قول شاعر إثباتا للرسالة على طريق الكناية أما إذا جعل المقصود من السياق إثبات حقية المنزل وأنه من الله عزوجل فإنه تذكرة لهؤلاء وحسرة لمقابليهم وهو في نفسه صدق ويقين لا يحوم حوله شك كما يدل عليه ما بعد. فللقول الثاني أيضا موقع حسن وكأنه قيل إن هذا القرآن لقول جبريل الرسول الكريم وما هو من تلقاء محمد صلىاللهعليهوسلم كما تزعمون وتدعون أنه شاعر وكاهن ويكون قد نفى عنه صلىاللهعليهوسلم الشعر والكهانة على سبيل الإدماج انتهى وهو تحقق حسن (قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ) أي تصدقون تصديقا قليلا على أن (قَلِيلاً) صفة للمفعول المطلق لتؤمنون و (ما) مزيدة للتأكيد والقلة بمعناها الظاهر لأنهم لظهور صدقه صلىاللهعليهوسلم لزم تصديقهم له عليه الصلاة والسلام في الجملة وإن أظهروا خلافه عنادا وأبوه تمردا بألسنتهم وحمل الزمخشري القلة على العدم والنفي أي لا تؤمنون البتة ولا كلام فيه سوى أنه دون الأول في الظهور. وقال أبو حيان : لا يراد بقليلا هنا النفي المحض كما زعم فذلك لا يكون إلّا في أقل نحو أقل رجل يقول كذا إلّا زيد وفي قل نحو قل رجل يقول كذا إلّا زيد وقد يكون في قليل وقليلة إذا كانا مرفوعين نحو ما جوزوا في قوله :
أنيخت فألقت بلدة فوق بلدة |
|
قليل بها الأصوات إلّا بغامها |
أما إذا كان منصوبا نحو قليلا ضربت أو قليلا ما ضربت على أن تكون ما مصدرية فإن ذلك لا يجوز