بشيء. ويؤيد الأول قوله تعالى : (يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً) فإنه جواب الأمر والجوابية تقتضي الملازمة وما تضمنه لا يلزم من المرتين غالبا ، والمعنى يعد إليك البصر محروما من إصابة ما التمسه من إصابة العيب والخلل كأنه طرد عنه طردا بالصغار بناء على ما قيل إنه مأخوذ من خسأ الكلب المتعدي أي طرده على أنه استعارة ، لكن في الصحاح يقال : خسا بصره خسا وخسوءا أي سدر والسدر تحير النظر فكان تفسير (خاسِئاً) بمتحيرا أخذا له من ذلك أقرب ، وكأنهم اختاروا ما تقدم لأن فيه مبالغة وبلاغة ظاهرة مع كونه أبعد عن التكرار مآلا مع قوله تعالى (وَهُوَ حَسِيرٌ) أي كليل من طول المعاودة وكثرة المراجعة. يقال : حسر بعيره يحسر حسورا أي كلّ وانقطع فهو حسير ومحسور. وقال الراغب : الحسر كشف الملبس عما عليه ، يقال : حسرت عن الذراع أي كشفت ، والحاسر من لا درع عليه ولا مغفر. وناقة حسير انحسر عنها اللحم والقوة ، ونوق حسرى ، والحاسر أيضا المعنى لانكشاف قواه ويقال له أيضا محسور أما الحاسر فتصور أنه قد حسر بنفسه قواه ، وأما المحسور فتصور أن التعب قد حسره وحسير في الآية يصح أن يكون بمعنى حاسر وأن يكون بمعنى محسور ، والجملة في موضع الحال كالوصف السابق من البصر ويحتمل أن تكون حالا من الضمير فيه. وقرأ الخوارزمي عن الكسائي «ينقلب» بالرفع ، وخرج على أن الجملة في موضع حال مقدرة. وقوله تعالى (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ) إلخ كلام مسوق للحث على النظر قدرة وامتنانا. وفي الإرشاد بيان لكون خلق السماوات في غاية الحسن والبهاء إثر بيان خلوّها عن شائبة العيب والقصور وتصدير الجملة بالقسم لإبراز كمال العناية بمضمونها أي وبالله لقد زينا السماء (الدُّنْيا) منكم أي التي هي أتم دنوا منكم من غيرها فدنوها بالنسبة إلى ما تحت وأما بالنسبة إلى من حول العرش فبالعكس (بِمَصابِيحَ) جمع مصباح وهو السراج ، وتجوز به عن الكوكب ثم جمع أو تجوز بالمصابيح ابتداء عن الكواكب ، وفسره بعض اللغويين بمقر السراج فيكون حينئذ تجوزا على تجوز ولا حاجة إليه مع تصريحهم بأن المصباح نفس السراج أيضا وتنكيرها للتعظيم أي بمصابيح عظيمة ليست كمصابيحكم التي تعرفونها. وقيل للتنويع والأول أولى. والظاهر أن المراد الكواكب المضيئة بالليل إضاءة السراج من السيارات والثوابت بناء على أنها كلها في أفلاك ومجار متفاوتة قربا وبعدا في ثخن السماء الدنيا ، وكون السماء هي الفلك خلاف المعروف عن السلف وإنما هو قول قاله من أراد الجمع بين كلام الفلاسفة الأولى وكلام الشريعة فشاع فيما بين الإسلام واعتقده من اعتقده. وعن عطاء أن الكواكب في قناديل معلقة بين السماء والأرض بسلاسل من نور في أيدي ملائكة وعليه ف (زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) كقول القائل :
زينت السقف بالقناديل
وهو ظاهر لكن الخبر لا يكاد يصح. ومن اعتقد أن السماء الدنيا فلك القمر والست الباقية أفلاك السيارات الباقية على الترتيب المشهور وأن للثوابت فلكا مخصوصا يسمى بلسان الشرع بالكرسي ، أو جوز أن تكون هذه في فلك زحل وهو السماء السابعة ، أو يكون بعضها في فلك وبعضها الآخر في آخر فوقه ، أو كل منها في فلك وسماء غير السبع. والاقتصار على العدد القليل لا ينفي الكثير قال : إن تخصيص السماء بالتزيين بها لأنها إنما ترى عليها ولا ترى جرم ما فوقها أو رعاية لمقتضى إفهام العامة لتعذر التمييز بين سماء وسماء عليهم ، فهم يرون الكواكب كجواهر متلألئة على بساط الفلك الأزرق الأقرب ، ومن اعتبر ما عليه أهل الهيئة اليوم من أن الكواكب فلك عجائب القدرة مواخر في بحر جو الفضاء على وجه مخصوص تقتضيه الحكمة