(وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ) (٤٠)
____________________________________
أو ينتظروا وقوع ما أخبر به من الأمور المستقبلة ونفى إتيان التأويل بكلمة لما الدالة على التوقع بعد نفى الإحاطة بعلمه بكلمة لم لتأكيد الذم وتشديد التشنيع فإن الشناعة فى تكذيب الشىء قبل علمه المتوقع إتيانه أفحش منها فى تكذيبه قبل علمه مطلقا والمعنى أنه كان يجب عليهم أن يتوقفوا إلى زمان وقوع المتوقع فلم يفعلوا وأما أن المتوقع قد وقع بعدو أنهم استمروا عند ذلك أيضا على ما هم عليه أولا فلا تعرض له ههنا والاستشهاد عليه بعدم انقطاع الذم أو ادعاء أن قولهم افتراه تكذيب بعد التدبر ناشىء من عدم التدبر فتدبر كيف لا وهم لم يقولوه بعد التحدى بل قبله وادعاء كونه مسبوقا بالتحدى الوارد فى سورة البقرة يرده أنها مدنية وهذه مكية وإنما الذى يدل عليه ما سيتلى عليك من قوله تعالى (وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ) الخ وقوله تعالى (كَذلِكَ) الخ وصف لحالهم المحكى وبيان لما يؤدى إليه من العقوبة أى مثل ذلك التكذيب* المبنى على بادى الرأى والمجازفة من غير تدبر وتأمل (كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أى فعلوا التكذيب أو* كذبوا ما كذبوا من المعجزات التى ظهرت على أيدى أنبيائهم أو كذبوا أنبياءهم (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) وهم الذين من قبلهم من المكذبين وإنما وضع المظهر موضع المضمر للإيذان بكون التكذيب ظلما أو بعليته لإصابة ما أصابهم من سوء العاقبة وبدخول هؤلاء الظالمين فى زمرتهم جرما ووعيدا دخولا أوليا وقوله عزوجل (وَمِنْهُمْ) الخ وصف لحالهم بعد إتيان التأويل المتوقع إذ حينئذ يمكن تنويعهم إلى المؤمن به وغير المؤمن ضرورة امتناع الإيمان بشىء من غير علم به واشتراك الكل فى التكذيب والكفر به قبل ذلك حسبما أفاده قوله تعالى (بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ) أى ومن هؤلاء المكذبين (مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) عند الإحاطة بعلمه وإتيان تأويله وظهور حقيته بعد ما سعوا فى المعارضة ورازو اقواهم فيها فتضاءلت دونها أو بعد ما شاهدوا وقوع ما أخبر به كما أخبر به مرارا ومعنى الإيمان به إما الاعتقاد بحقيته فقط أى يصدق به فى نفسه ويعلم أنه حق ولكنه يعاند ويكابر وهؤلاء هم الذين أشير بقصر اتباع الظن على أكثرهم إلى أنهم يعلمون الحق على التفسير الأول كما أشير إليه فيما سلف وإما الإيمان الحقيقى أى سيؤمن به ويتوب عن الكفر وهم الذين أشير بالقصر المذكور على التفسير الثانى إلى أنهم سيتبعون الحق كما مر (وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ) أى لا يصدق به فى نفسه كما لا يصدق ظاهرا لفرط غباوته المانعة عن الإحاطة بعلمه* كما ينبغى وإن كان فوق مرتبة عدم الإحاطة به أصلا أو لسخافة عقله واختلال تمييزه وعجزه عن تخليص علومه عن مخالطة الظنون والأوهام التى ألفها فيبقى على ما كان عليه من الشك وهذا القدر من الإحاطة وإتيان التأويل كاف فى مقابلة ما سبق من عدم الإحاطة بالمرة وهؤلاءهم الذين أريدوا فيما سلف بقوله عزوجل (وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا) على التفسير الأول أو لا يؤمنوا به فيما سيأتى بل يموت على كفره معاندا كان أو شاكا وهم المستمرون على اتباع الظن على التفسير الثانى من غير إذعان للحق وانقياد له (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ) * أى بكلا الفريقين على الوجه الأول لا بالمعاندين فقط كما قيل لاشتراكهما فى أصل الإفساد المستدعى لاشتراكهما فى الوعيد أو بالمصرين الباقين على الكفر على الوجه الثانى من المعاندين والشاكين.