(وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٦)
____________________________________
* ويتغشى بثوبه ويقول هل يعلم الله ما فى قلبى (يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ) أى يضمرون فى قلوبهم (وَما يُعْلِنُونَ) أى يستوى بالنسبة إلى علمه المحيط سرهم وعلنهم فكيف يخفى عليه ما عسى يظهرونه وإنما قدم السر على العلن نعيا عليهم من أول الأمر ما صنعوا وإيذانا بافتضاحهم ووقوع ما يحذرونه وتحقيقا للمساواة بين العلمين على أبلغ وجه فكأن علمه بما يسرونه أقدم منه بما يعلنونه ونظيره قوله تعالى (قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ) حيث قدم فيه الإخفاء على الإبداء على عكس ما وقع فى قوله تعالى (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) إذ لم يتعلق بإشعار أن المحاسبة بما يخفونه أولى منها بما يبدونه غرض بل الأمر بالعكس وأما ههنا فقد تعلق بإشعار كون تعلق علمه تعالى بما يسرونه أولى منه بما يعلنونه غرض مهم مع كونهما على السوية كيف لا وعلمه تعالى بمعلوماته ليس بطريق حصول الصورة بل وجود كل شىء فى نفسه علم بالنسبة إليه تعالى وفى هذا المعنى لا يختلف الحال بين الأشياء البارزة والكامنة وأما قوله تعالى (وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) فحيث كان واردا بصدد الخطاب مع الملائكة عليهمالسلام المنزه مقامهم عن اقتضاء التأكيد والمبالغة فى الإخبار بإحاطة علمه تعالى بالظاهر والباطن لم يسلك فيه ذلك المسلك مع أنه وقع الغنية عنه بما قبله من قوله عزوجل (إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ويجوز أن يكون ذلك باعتبار أن مرتبة السر متقدمة على مرتبة العلن إذ ما من شىء يعلن إلا وهو أو مباديه قبل* ذلك مضمر فى القلب فتعلق علمه سبحانه بحالته الأولى متقدم على تعلقه بحالته الثانية (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) تعليل لما سبق وتقرير له واقع موقع الكبرى من القياس وفى صيغة الفعيل وتحلية الصدور بلام الاستغراق والتعبير عن الضمائر بعنوان صاحبيتها من البراعة ما لا يصفه الواصفون كأنه قيل إنه مبالغ فى الإحاطة بمضمرات جميع الناس وأسرارهم الخفية المستكنة فى صدورهم بحيث لا تفارقها أصلا فكيف يخفى عليه ما يسرون وما يعلنون ويجوز أن يراد بذات الصدور القلوب من قوله تعالى (وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) والمعنى أنه عليم بالقلوب وأحوالها فلا يخفى عليه سر من أسرارها (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) غذاؤها اللائق بها من حيث الخلق ومن حيث الإيصال إليها بطريق طبيعى أو إرادى لتكفله إياه تفضلا ورحمة وإنما جىء به على طريق الوجوب اعتبارا لسبق الوعد وتحقيقا* لوصوله إليها البتة وحملا للمكلفين على الثقة به تعالى والإعراض عن إتعاب النفس فى طلبه (وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها) محل قرارها فى الأصلاب (وَمُسْتَوْدَعَها) موضعها فى الأرحام وما يجرى مجراها من البيض ونحوها وإنما خص كل من الاسمين بما خص به من المحلين لأن النطفة بالنسبة إلى الأصلاب فى حيزها الطبيعى ومنشئها الخلقى وأما بالنسبة إلى الأرحام وما يجرى مجراها فهى مودعة فيها إلى وقت معين أو مسكنها من الأرض حين وجدت بالفعل ومودعها من المواد والمقار حين كانت بعد بالقوة ولعل تقديم محلها