(إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (٤٤)
____________________________________
جملة مقدرة مقابلة لها فى الفحوى كلتاهما فى موضع الحال من مفعول الفعل السابق أى أفأنت تسمع الصم لو كانوا يعقلون ولو كانوا لا يعقلون أفأنت تهدى العمى لو كانوا يبصرون ولو كانوا لا يبصرون أى على كل حال مفروض وقد حذفت الأولى فى الباب حذفا مطردا لدلالة الثانية عليها دلالة واضحة فإن الشىء إذا تحقق عند تحقق المانع أو المانع القوى فلأن يتحقق عند عدمه أو عند تحقق المانع الضعيف أولى وعلى هذه النكتة يدور ما فى لو وإن الوصليتين من التأكيد وقد مر الكلام فى قوله تعالى (وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) ونظائره مرارا (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ) إشارة إلى أن ما حكى عنهم من عدم اهتدائهم إلى طريق الحق وتعطل مشاعرهم من الإدراك ليس لأمر مستند إلى الله عزوجل من خلقهم مؤفى المشاعر ونحو ذلك بل إنما هو من قبلهم أى لا ينقصهم (شَيْئاً) مما نيط به مصالحهم الدينية والدنيوية وكمالاتهم الأولوية والأخروية من مبادى إدراكاتهم* وأسباب علومهم من المشاعر الظاهرة والباطنة والإرشاد إلى الحق بإرسال الرسل وإنزال الكتب بل يوفيهم ذلك من غير إخلال بشىء أصلا (وَلكِنَّ النَّاسَ) وقرىء بالتخفيف ورفع الناس وضع الظاهر موضع* الضمير لزيادة تعيين وتقرير أى لكنهم بعدم استعمال مشاعرهم فيما خلقت له وإعراضهم عن قبول دعوة الحق وتكذيبهم للرسل والكتب (أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) أى ينقصون ما ينقصون مما يخلون به من* مبادى كمالهم وذرائع اهتدائهم وإنما لم يذكر لما أن مرمى الغرض إنما هو قصر الظلم على أنفسهم لا بيان ما يتعلق به الظلم والتعبير عن فعلهم بالنقص مع كونه تفويتا بالكلية وإبطالا بالمرة لمراعاة جانب قرينته وقوله عزوجل (أَنْفُسَهُمْ) إما تأكيد للناس فيكون بمنزلة ضمير الفصل فى قوله تعالى (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) فى قصر الظالمية عليهم وإما مفعول ليظلمون حسبما وقع فى سائر المواقع وتقديمه عليه لمجرد الاهتمام به مع مراعاة الفاصلة من غير قصد إلى قصر المظلومية عليهم على رأى من لا يرى التقديم موجبا للقصر فيكون كما فى قوله تعالى (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) من غير قصر للظلم لا على الفاعل ولا على المفعول وأما على رأى من يراه موجبا له فلعل إيثار قصرها دون قصر الظالمية عليهم للمبالغة فى بيان بطلان أفعالهم وسخافة عقولهم لما أن أقبح الأمرين عند اتحاد الفاعل والمفعول وأشدهما إنكارا عند العقل ونفرة لدى الطبع وأوجبهما حذرا منه عند كل أحد هو المظلومية لا الظالمية على أن قصر الأولى عليهم مستلزم لما يقتضيه ظاهر الحال من قصر الثانية عليهم ضرورة أنه إذا لم يظلم أحد من الناس إلا نفسه يلزم أن لا يظلمه إلا نفسه إذ لو ظلمه غيره يلزم كون ذلك الغير ظالما لغير نفسه والمفروض أن لا يظلم أحد إلا نفسه فاكتفى بالقصر الأول عن الثانى مع رعاية ما ذكر من الفائدة وصيغة المضارع للاستمرار نفيا وإثباتا فإن حرف النفى إذا دخل على المضارع يفيد بحسب المقام استمرار النفى لا نفى الاستمرار ألا يرى أن قولك ما زيدا ضربت يدل على اختصاص النفى لا على نفى الاختصاص ومساق الآية الكريمة لإلزام الحجة ويجوز أن يكون للوعيد فالمضارع المنفى للاستقبال والمثبت للاستمرار والمعنى أن الله لا يظلمهم بتعذيبهم يوم القيامة شيئا من الظلم ولكنهم أنفسهم يظلمون ظلما مستمرا فإن مباشرتهم