(أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٥٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (٥٤) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (٥٥) وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) (٥٦)
____________________________________
ما النافية فيما قبلها (أَتَواصَوْا بِهِ) إنكار وتعجيب من حالهم وإجماعهم على تلك الكلمة الشنيعة التى لا تكاد تخطر ببال أحد من العقلاء فضلا عن التفوه بها أى أوصى بهذا القول بعضهم بعضا حتى اتفقوا* عليه وقوله تعالى (بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) إضراب عن كون مدار اتفاقهم على الشر تواصيهم بذلك وإثبات لكونه أمرا أقبح من التواصى وأشنع منه من الطغيان الشامل للكل الدال على أن صدور تلك الكلمة الشنيعة عن كل واحد منهم بمقتضى جبلته الخبيثة لا بموجب وصية من قبلهم بذلك من غير أن يكون ذلك مقتضى طباعهم (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) فأعرض عن جدالهم فقد كررت عليهم الدعوة فأبوا إلا الإباء (فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ) على التولى بعد ما بذلت المجهود وجاوزت فى الإبلاغ كل حد معهود (وَذَكِّرْ) أى* افعل التذكير والموعظة ولا تدعهما بالمرة أو فذكرهم وقد حذف الضمير لظهور الأمر (فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) أى الذين قدر الله تعالى إيمانهم أو الذين آمنوا بالفعل فإنها تزيدهم بصيرة وقوة فى اليقين (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) استئناف مؤكد للأمر مقرر لمضمون تعليله فإن كون خلقهم مغيا بعبادته تعالى مما يدعوه عليه الصلاة والسلام إلى تذكيرهم ويوجب عليهم التذكر والاتعاظ ولعل تقديم خلق الجن فى الذكر لتقدمه على خلق الإنس فى الوجود ومعنى خلقهم لعبادته تعالى خلقهم مستعدين لها ومتمكنين منها أتم استعداد وأكمل تمكن مع كونها مطلوبة منهم بتنزيل ترتب الغاية على ما هى ثمرة له منزلة ترتب الغرض على ما هو غرض له فإن استتباع أفعاله تعالى لغايات جليلة مما لا نزاع فيه قطعا كيف لا وهى رحمة منه تعالى وتفضل على عباده وإنما الذى لا يليق بجنابه عزوجل تعليلها بالغرض بمعنى الباعث على الفعل بحيث لولاه لم يفعله لإفضائه إلى استكماله بفعله وهو الكامل بالفعل من كل وجه وأما بمعنى نهاية كمالية يفضى إليها فعل الفاعل الحق فغير منفى من أفعاله تعالى بل كلها جارية على المنهاج وعلى هذا الاعتبار يدور وصفه تعالى بالحكمة ويكفى فى تحقق معنى التعليل على ما يقوله الفقهاء ويتعارفه أهل اللغة هذا المقدار وبه يتحقق مدلول اللام وأما إرادة الفاعل لها فليست من مقتضيات اللام حتى يلزم من عدم صدور العبادة عن البعض تخلف المراد عن الإرادة فإن تعوق البعض عن الوصول إلى الغاية مع تعاضد المبادى وتآخذ المقدمات الموصلة إليها لا يمنع كونها غاية كما فى قوله تعالى (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) ونظائره وقيل المعنى إلا ليؤمروا بعبادتى كما فى قوله تعالى (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً) وقيل المراد سعداء الجنسين كما أن المراد