عِلْماً) [طه : ١١٤]. واعلم أن العجلة من الشيطان والتأنّي من الله. واعلم أن الميزان الأكبر هو ميزان الخليل صلوات الله عليه وسلامه الذي استعمله مع نمرود فمنه تعلمنا هذا الميزان لكن بواسطة القرآن ، وذلك أن نمرود ادعى الإلهية ، وكانت الإلهية عنده بالاتفاق عبارة عن القادر على كل شيء. فقال إبراهيم : الإله إلهي لأنه الذي يحيي ويميت وهو القادر عليه وأنت لا تقدر عليه. فقال : (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) يعني أنه يحيي النطفة بالوقاع ويميت بالقتل ، فعلم إبراهيم صلىاللهعليهوسلم أن ذلك يعسر عليه فهم بطلانه فعدل إلى ما هو أوضح عنده. فقال : (فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) [البقرة : ٢٥٨]. وقد أثنى الله عليه فقال : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ) [الأنعام : ٨٣]. فعلمت من هذا أن الحجة والبرهان في قول إبراهيم وميزانه. فنظرت في كيفية وزنه كما نظرت أنت في ميزان الذهب والفضة فرأيت في هذه الحجة أصلين قد ازدوجا فتولّد منهما نتيجة هي المعرفة إذ القرآن مبناه على الحذف والإيجاز. وكمال صورة هذا الميزان أن تقول كل من يقدر على اطلاع الشمس فهو الإله ، فهذا أصل. وإلهي هو القادر على الاطلاع وهذا أصل آخر. فلزم من مجموعهما أن إلهي هو الإله دونك يا نمرود. فانظر الآن هل يمكن أن يعترف بالأصلين معترف ثم يشكّ في النتيجة ، أو هل يتصور أن يشك في هذين الأصلين شاك؟ فإن قولنا : الإله هو القادر على إطلاع الشمس لا شك فيه لأن الإله كان عندهم وعند كل أحد عبارة عن القادر على كل شيء ، وإطلاع الشمس هو من جملة تلك الأشياء وهذا أصل معلوم بالوضع والاتفاق. وقولنا : القادر على الاطلاع هو الله تعالى دونك معلوم بالمشاهدة فإن عجز نمرود وعجز كل أحد سوى من يحرك الشمس مشاهد بالحس ونعني بالإله محرك الشمس ومطلعها. فيلزمنا من معرفة الأصل الأول المعلوم بالوضع المتفق عليه. ومن الأصل الثاني المعلوم بالمشاهدة أن نمرود ليس هو القادر على تحريك الشمس. فنعلم بعد معرفة هذين الأصلين أن نمرود ليس بإله وإنما الإله هو الله تعالى. فراجع نفسك الآن هل ترى هذا أوضح من المقدمة التجريبية والحسيّة اللتين عليهما صحّة ميزان الذهب والفضّة.
فقال : هذه المعرفة لازمة منه بالضرورة ولا يمكنني أن أشك في الأصلين ولا أن أشك في لزوم هذه النتيجة منهما ، ولكن هذا لا ينفعني إلا في هذا الموضع وعلى الوجه الذي استعمله الخليل عليه الصلاة والسلام وذلك في نفي إلهية نمرود وإقرار الإلهية لمن تفرد باطلاع الشمس ، فكيف إذن بها سائر المعارف التي تشكل علي وأحتاج إلى تمييز الحق فيها عن الباطل؟
فقلت : من وزن الذهب بميزان يمكنه أن يزن به الفضّة وسائر الجواهر ، لأن الموزون عرف مقداره لا لأنه ذهب بل لأنه ذو مقدار ، ولذلك هذا البرهان كشف لنا عن هذه المعرفة لا لعينها ، بل لأنها حقيقة من الحقائق ومعنى من المعاني فنتأمل أنه لم تلزم منه هذه النتيجة ونأخذ روحه ونجرده عن هذا المثال الخاص حتى ننتفع به حيث أردنا وإنما لزم هذا لأن الحكم على الصفة حكم على الموصوف