ولأهل الإنجيل بإنجيلهم ، ولأهل القرآن بقرآنهم." وهذه مرتبة لا تنال بمجرد التعلم الإنساني ، بل يتحلى المرء بهذه المرتبة بقوة العلم اللدني ، وقال أيضا رضي الله عنه يحكي عن عهد موسى عليهالسلام أن شرح كتابه أربعون حملا فلو يأذن الله في شرح معاني الفاتحة لأشرع فيها حتى تبلغ مثل ذلك ، يعني أربعين ووقرا ، وهذه الكثرة والسعة والانفتاح في العلم لا يكون إلا لدنيا إلهيا سماويا. فإذا أراد الله تعالى بعبد خيرا رفع الحجاب بين نفسه وبين النفس التي هي اللوح ، فيظهر فيها أسرار بعض المكنونات وانتقش فيها معاني تلك المكنونات فتعبر النفس عنها كما تشاء لمن يشاء من عباده وحقيقة الحكمة تنال من العلم اللدني وما لم يبلغ الإنسان هذه المرتبة لا يكون حكيما لأن الحكمة من مواهب الله تعالى : (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) [البقرة : ٢٦٩]. وذلك لأن الواصلين إلى مرتبة العلم اللدني مستغنون عن كثرة التحصيل وتعب التعليم فيتعلمون قليلا ويعلمون كثيرا ويتعبون يسيرا ويستريحون طويلا.
واعلم أن الوحي إذا انقطع. وباب الرسالة إذا انسدّ استغنى الناس عن الرسل وإظهار الدعوة بعد تصحيح الحجّة وتكميل الدين ، كما قال تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) [المائدة : ٣]. وليس من الحكمة إظهار زيادة الفائدة من غير حاجة. فأما باب الإلهام فلا ينسدّ ، ومدد نور النفس الكلية لا ينقطع لدوام ضرورة النفوس وحاجتها إلى تأكيد وتجديد وتذكير ، وكما أن الناس استغنوا عن الرسالة والدعوة واحتاجوا إلى التذكير والتنبيه لاستغراقهم في هذه الوساوس وانهماكهم في هذه الشهوات فالله تعالى أغلق باب الوحي وهو آية العباد وفتح باب الإلهام رحمة وهيأ الأمور. ورتب المراتب ليعلموا أن الله لطيف بعباده يرزق من يشاء بغير حساب.
فصل في مراتب النفوس في تحصيل العلوم
اعلم أن العلوم مركوزة في جميع النفوس الإنسانية وكلها قابلة لجميع العلوم وإنما يفوت نفسا من النفوس حظها منه بسبب طارئ وعارض يطرأ عليها من خارج ، كما قال النبيّ صلىاللهعليهوسلم : " خلق الناس حنفاء فاحتالتهم الشياطين". وقال صلىاللهعليهوسلم : " كلّ مولود يولد على الفطرة" الحديث فالنفس الناطقة الإنسانية أهل لإشراق النفس الكلية عليها ومستعدة لقبول الصور المعقولة عنها بقوة طهارتها الأصلية وصفاتها ، ولكن يمرض بعضها في هذه الدنيا. ويمتنع عن إدراك الحقائق بأمراض مختلفة وأعراض شتى ، ويبقى بعضها على الصحة الأصلية بلا مرض وفساد. يقبل أبدا ما دامت حية ، والنفوس الصحيحة هي النفوس النبوية القابلة للوحي والتأييد القادرة على إظهار المعجزة والتصرف في عالم الكون والفساد ، فإن تلك النفوس باقية على الصحّة الأصلية ، وما تغيّرت أمزجتها بفساد الأمراض وعلل الأعراض فصار الأنبياء أطباء النفوس ودعاة الخلق إلى صحة الفطرة.
وأما النفوس المريضة في هذه الدنيا الدنيئة فصارت على مراتب ، بعضهم تأثر بمرض