أيها الولد : بعض مسائلك من هذا القبيل ، وأما البعض الذي يستقيم له الجواب فقد ذكرناه في إحياء العلوم وغيره. وتذكر هاهنا نبدأ منه ونشير إليه فنقول : قد وجب على السالك أربعة أمور :
الأمر الأوّل : اعتقاد صحيح لا يكون فيه بدعة.
والثاني : توبة نصوح لا يرجع بعدها إلى الزلّة.
والثالث : استرضاء الخصوم حتى لا يبقى لأحد عليك حقّ.
والرابع : تحصيل علم الشريعة قدر ما تؤدي به أوامر الله تعالى. ثم من العلوم الآخرة ما يكون به النجاة. حكي أن الشبلي رحمهالله خدم أربعمائة أستاذ ، وقال : قرأت أربعة آلاف حديث ، ثم اخترت منها حديثا واحدا وعملت به وخليت ما سواه لأني تأملته فوجدت خلاصي ونجاتي فيه. وكان علم الأولين والآخرين كله مندرجا فيه فاكتفيت به ، وذلك أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال لبعض أصحابه : " اعمل لدنياك بقدر مقامك فيها ، واعمل لآخرتك بقدر بقائك فيها ، واعمل لله بقدر حاجتك إليه ، واعمل للنار بقدر صبرك عليها".
أيها الولد : إذا علمت هذا الحديث لا حاجة إلى العلم الكثير ، وتأمّل في حكاية أخرى : وذلك أن حاتما الأصمّ كان من أصحاب الشقيق البلخي رحمة الله تعالى عليهما ، فسأله يوما قال : صاحبتني منذ ثلاثين سنة ما حصلت فيها؟ قال : حصلت ثماني فوائد من العلم وهي تكفيني منه لأني أرجو خلاصي ونجاتي فيها ، فقال شقيق : ما هي! قال حاتم الأصمّ :
الفائدة الأولى : إني نظرت إلى الخلق فرأيت لكل منهم محبوبا ومعشوقا يحبه ويعشقه وبعض ذلك المحبوب يصاحبه إلى مرض الموت وبعضه إلى شفير القبر ، ثم يرجع كله ويتركه فريدا وحيدا ولا يدخل معه في قبره منهم أحد ، فتفكرت وقلت : أفضل محبوب المرء ما يدخل معه في قبره ويؤانسه فيه فما وجدت غير الأعمال الصالحة فأخذتها محبوبا لي لتكون سراجا لي في قبري ، وتؤانسني فيه ولا تتركني فريدا.
الفائدة الثانية : إني رأيت الخلق يقتدون بأهوائهم ويبادرون إلى مرادات أنفسهم فتأمّلت قوله تعالى: (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) [النازعات : ٤٠ و ٤١]. وتيقنت أن القرآن حق صادق فبادرت إلى خلاف نفسي وتشمرت بمجاهدتها وما متعتها بهواها حتى رضيت بطاعة الله سبحانه وتعالى وانقادت.
الفائدة الثالثة : إني رأيت كل واحد من الناس يسعى في جمع حطام الدنيا ثم يمسكها قابضا يده عليه ، فتأمّلت في قوله تعالى : (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ) [النحل : ٩٦]. فبذلت محصولي من الدنيا لوجه الله تعالى ، ففرّقته بين المساكين ليكون ذخرا لي عند الله تعالى.
الفائدة الرابعة : إني رأيت بعض الخلق ظن شرفه وعزه في كثرة الأقوام والعشائر فاغترّ بهم ، وزعم آخر أنه في ثروة الأموال وكثرة الأولاد فافتخروا بها ، وحسب بعضهم الشرف