فقلت : قد أخبر الناطق عن الصامت إذ قال تعالى : (إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الجمعة : ٨]. وقلت لها : هبي أنك ملت إلى العاجلة أفلست مصدقة بأن الموت لا محالة آتيك وقاطع عليك كل ما أنت متمسكة به وسالب منك كل ما أنت راغبة فيه وكل ما هو آت قريب والبعيد ما ليس بآت ، وقد قال الله تعالى : (أفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ* ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ* ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ) [الشعراء: ٢٠٥ و ٢٠٧]. أفأنت مخرجة هذا عن جميع ما أنت فيه؟ والحر الحكيم يخرج من الدنيا قبل أن يخرج منها. واللائم يتمسك بها إلى أن يخرج من الدنيا خائبا خاسرا متحسرا ، فقالت : صدقت ، فكان ذلك منها قولا لا تحصيل وراءه إذ لم تجتهد قط في التزود للآخرة كاجتهادها في تدبير العاجل ، ولم تجتهد قط في رضاء الله تعالى كاجتهادها في رضاها بل كاجتهادها في طلب الخلق ، ولم تستح قط من الله تعالى كما تستحي من واحد من الخلق ، ولم تشمر للاستعداد للآخرة كتشميرها في الصيف ، فإنها لا تطمئن في أوائل الشتاء ما لم تفرغ من جميع ما تحتاج إليه فيه من آلاته مع أن الموت ربما يختطفها ، والشتاء لا يدركها ، والآخرة على يقين لا يتصور أن يختطف منها ، وقلت لها : ألا تستعدين للصيف بقدر طوله وتصنعين آلة الصيف بقدر صبرك على الحر؟ قالت : نعم. قلت : فاعصي الله بقدر صبرك على النار واستعدي للآخرة بقدر بقائك فيها. فقالت : هذا هو الواجب الذي لا يرخص في تركه إلا الأحمق ، ثم استمرت على سجيتها فوجدتني كما قال بعض الحكماء : إن في الناس من يموت نصفه ولا ينزجر نصفه الآخر ، وما أراني إلا منهم ، ولما رأيتها متمادية في الطغيان غير منتفعة بوعظ الموت والقرآن. رأيت أهم الأمور التفتيش عن سبب تماديها مع اعترافها وتصديقها ، فإن ذلك من العجائب العظيمة ، فطال عليه تفتيشي حتى وقفت على سببه. وها أنا مؤنس وإياه بالحذر منه. فهو الداء العضال وهو السبب الداعي إلى الغرور والإهمال. وهو اعتقاد تراخي الموت واستبعاد هجومه على القرب. فإنه لو أخبره صادق في بياض نهاره أنه يموت في ليلته أو يموت إلى أسبوع أو أشهر ، لاستقام على الطريق المستقيم. ولترك جميع ما هو فيه مما يظن أنه مما يتعاطاه لله تعالى ومغرور فيه فضلا عما يعلم أنه ليس لله تعالى ، فانكشف تحقيقا أن من أصبح وهو يأمل أن يمسي أو أمسى وهو يأمل أن يصبح لم يخل من الفتور والتسويف ، ولم يقدر إلا على سير ضعيف. فأوصيه ونفسي بما أوصى به رسول الله صلىاللهعليهوسلم حيث قال : " صلّ صلاة مودّع" ، ولقد أوتي جوامع الكلم وفصل الخطاب. ولا ينتفع بوعظ إلا به ، فمن غلب على قلبه في كل صلاة أنها آخر صلاته ، حضر معه قلبه في الصلاة وتيسّر له الاستعداد بعد الصلاة. ومن عجز عن ذلك فلا يزال في غفلة دائمة وغرور مستمر ، وتسويف متتابع إلى أن يدركه الموت فتدركه حسرة الفوت ، وأنا مقترح عليه أن لا يسأل الله تعالى أن يرزقني هذه الرتبة فإني طالب لها ، وقاصر عنها ، وأوصيه أن لا يرضى من نفسه إلا بها ، وأن يحذر من مواقع الغرور ، فإذا وعدت النفس بذلك طالبها بموثق غليظ من الله تعالى ، فإن خداع النفس لا يقف عليه إلا الأكياس.
وأما أقل ما يجب اعتقاده على المكلف فهو ما يترجمه قوله لا إله إلا الله محمد رسول الله.