مجتمعة ، فإن كل كلمة سابقة على كلمة أو لاحقة لها مؤثرة في تفهم معناه مطلقا ومرجحة الاحتمال الضعيف فيه ، فإذا فرقت وفصلت سقطت دلالتها مثال قوله تعالى : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) [الأنعام : ١٨]. لا تسلط على أن يقول القائل هو فوق ، لأنه إذا ذكر القاهر قبلة ظهر دلالة الفوق على الفوقية التي للقاهر مع المقهور وهي فوقية الرتبة ولفظ القاهر يدل عليه بل يجوز أن يقول وهو القاهر فوق غيره ، بل ينبغي أن يقول فوق عبادة لأن ذكر العبودية في وصفه في الله فوقه يؤكد احتمال فوقية السيادة إذ لا يحسن أن يقال زيد فوق عمر. وقبل أن يتبين تفاوتهما في معنى السيادة والعبودية أو غلبة القهر أو نفوذ الأمر بالسلطنة أو بالأبوة أو بالزوجية ، فهذه الأمور يغفل عنها العلماء فضلا عن العوام ، فكيف يسلط العوام في مثل ذلك على التصرف بالجمع والتفريق والتأويل والتفسير وأنواع التغيير ، ولأجل هذه الدقائق بالغ السلف في الجمود والاقتصار على موارد التوقيف كما ورد على الوجه الذي ورد وباللفظ الذي ورد والحق ما قالوه والصواب ما رأوه ، فأهم المواضع بالاحتياط ما هو تصرف في ذات الله وصفاته ، وأحق المواضع بإلجام اللسان وتقييده عن الحريان فيما يعظم فيه الخطر وأي خطر أعظم من الكفر.
الوظيفة السادسة : في الكف بعد الإمساك. وأعني بالكف كف الباطن عن التفكر في هذه الأمور ، فذلك واجب عليه كما وجب عليه إمساك اللسان عن السؤال والتصرف ، وهذا أثقل الوظائف وأشدها وهو واجب كما وجب على العاجز الزمن أن يخوض غمرة البحار ، وإن كان يتقاضاه طبعه أن يغوص في البحار ويخرج دررها وجواهرها ، ولكن لا ينبغي أن تغره نفاسة جواهرها مع عجزه عن نيلها ، بل ينبغي أن ينظر إلى عجزه وكثرة معاطبها ومهالكها ويتفكر أنه إن فاته نفائس البحار فما فاته إلا زيادات وتوسعات في المعيشة وهو مستغن عنها ، فإن غرق أو التقمه تمساح فإنه أصل الحياة. فإن قلت : إن لم ينصرف قلبه من التفكر والتشوف إلى البحث فما طريقه؟ قلت : طريقه أن يشغل نفسه بعبادة الله وبالصلاة وقراءة القرآن والذكر ، فإن لم يقدر فبعلم آخر لا يناسب هذا الجنس من لغة أو نحو أو خط أو طب أو فقه ، فإن لم يمكنه فبحرفة أو صناعة ولو الحراثة والحياكة ، فإن لم يقدر فبلعب ولهو وكل ذلك خير له من الخوض في هذا البحر البعيد غوره وعمقه العظيم خطره وضرره ، بل لو اشتغل العامي بالمعاصي البدنية ربما كان أسلم له من أن يخوض في البحث عن معرفة الله تعالى ، فإن ذلك غايته الفسق وهذا عاقبته الشرك (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ١١٦].
فإن قلت : العامي إذا لم تكن نفسه إلى الاعتقادات الدينية إلا بدليل ، فهل يجوز أن يكون له الدليل فإن جوزت ذلك فقد رخصت له في التفكر والنظر ، وأي فرق بينه وبين غيره؟
الجواب : أني أجوز له أن يسمع الدليل على معرفة الخالق ووحدانيته وعلى صدق الرسول وعلى اليوم الآخر ولكن بشرطين : أحدهما : أن لا يزاد معه على الأدلة التي في القرآن. والآخر : أن لا يماري فيه مراء ظاهرا ولا يتفكر فيه إلا تفكرا سهلا جليا ولا يمعن في التفكر