مسألة وإن كان للقرآن حروف فهي مسألة أخرى. وأما أن الحروف قديمة فهي مسألة ثالثة ولم نزد عليه فلا نقول به ، ولا نزيد على ما قاله الرسول صلىاللهعليهوسلم ، فإن زعموا أنه يلزم المسألتين السابقتين هذه المسألة. قلنا : هذا قياس وتفريع ، وقد بينا أن لا سبيل إلى القياس والتفريع ، بل يجب الاقتصار على ما ورد من غير تفريق ، وكذلك إذا قالوا عربية القرآن قديمة لأنه قال القرآن قديم وقال : (أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) [يوسف : ٢]. فالعربي قديم. فنقول : أما أن القرآن عربي فحق إذ نطق به القرآن ، وأما أن القرآن ، قديم فحق إذ نطق به الرسول صلىاللهعليهوسلم ، فعلى هذا الوجه يلجم العوام والحشوية عن التصرف فيه ونزمهم عن القياس والقول باللوازم ، بل نزيد في التضييق على هذا ونقول : إذا قال القرآن كلام الله غير مخلوق فهذا لا يرخص في أن يقول القرآن قديم ما لم يرد لفظ القديم إذ فرق بين غير مخلوق والقديم ، إذ يقال : كلام فلان غير مخلوق أي غير موضوع ، وقد يقال : المخلوق بمعنى المختلق فلفظ غير مخلوق يتطرق إليه هذا ولا يتطرق إلى لفظ القديم ، فبينهما فرق ، ونحن نعتقد قدم القرآن لا بمجرد هذا اللفظ ، فإن هذا اللفظ لا ينبغي أن يجرف ويبدل ويغير ويصرف ، بل يلزم أن يعتقد أنه حق بالمعنى الذي أراده ، وكل من وصف القرآن بأنه مخلوق من غير نقل نص فيه مقصود ، فقد أبدع وزاد ومال عن مذهب السلف وحاد.
فصل في أن الإيمان قديم
فإن قيل : من المسائل المعروفة قولهم إن الإيمان قديم ، فإذا سئلنا عنه فبم نجيب؟
قلنا : إن ملكنا زمام الأمر واستولينا على السائل منعناه عن هذا الكلام السخيف الذي لا جدوى له ، وقلنا : إن هذا بدعة ، وإن كنا مغلوبين في بلادهم فنجيب ونقول : ما الذي أردت بالإيمان؟ إن أردت به شيئا من معارف الخلق وصفاتهم فجميع صفات الخلق مخلوقة ، وإن أردت به شيئا من القرآن أو من صفات الله تعالى فجميع صفات الله تعالى قديمة ، وإن أردت ما ليس صفة للخلق ولا صفة الخالق فهو غير مفهوم ولا متصور وما لا يفهم ولا يتصور ذاته ، كيف يفهم حكمه في القدم والحدوث. والأصل زجر السائل والسكوت عن الجواب هذا صفو مقصود مذهب السلف ولا عدول عنه إلا بضرورة وسبيل المضطر ما ذكرنا ، فإن وجدنا ذكيا مستفهما لفهم الحقائق كشفنا الغطاء عن المسألة وخلصناه عن الإشكال في القرآن وقلنا :
اعلم أن كل شيء فله في الوجود أربع مراتب : وجود في الأعيان ، ووجود في الأذهان ، ووجود في اللسان ، ووجود في البياض المكتوب عليه كالنار مثلا ، فإن لها وجودا في التنور ووجودا في الخيال والذهن ، وأعني بهذا الوجود العلم بنفس النار وحقيقتها ولها وجود في اللسان وهي الكلمة الدالة عليه ، أعني لفظ النار ولها وجود في البياض المكتوب عليه بالرقوم. والإحراق صفة خاصة للنار كالقدم للقرآن ولكلام الله تعالى ، والمحرق من هذه الجملة الذي في التنور دون الذي في الأذهان ، وفي اللسان وعلى البياض إذ لو كان المحرق