في البياض أو اللسان لاحترق ، ولكن لو قيل لنا : النار محرقة؟ قلنا : نعم. فإن قيل لنا : كلمة النار محرقة؟ قلنا : لا ، فإن قيل : حروف النار محرقة؟ قلنا : لا ، فإن قيل : مرقوم هذه الحروف على البياض محرقة؟ قلنا : لا ، فإن قيل : المذكور بكلمة النار أو المكتوب بكلمة النار محرق؟ قلنا : نعم. لأن المذكور والمكتوب بهذه الكلمة ما في التنور وما في التنور محرق ، فكذلك القدم وصف كلام الله تعالى كالإحراق وصف النار وما يطلق عليه اسم القرآن وجوده على أربع مراتب. أولها : وهي الأصل وجوده قائما بذات الله تعالى يضاهي وجود النار في التنور (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) [النحل : ٦٠]. ولكن لا بدّ من هذه الأمثلة في تفهيم العجزة والقدم وصف خاص لهذا الوجود. والثانية : وجوده العلمي في أذهاننا عند التعلم قبل أن ننطق بلساننا ، ثم وجوده في لساننا بتقطيع أصواتنا ، ثم وجوده في الأوراق بالكتب ، فإذا سئلنا عما في أذهاننا من علم القرآن قبل النطق به. قلنا : علمنا صفته وهي مخلوقة لكن المعلوم به قديم ، كما أن علمنا بالنار وثبوت صورتها في خيالنا غير محرق لكن المعلوم به محرق ، وإن سئلنا عن صوتنا وحركة لساننا ونطقنا قلنا : ذلك صفة لساننا فلساننا حادث وصفته توجد بعده وما هو بعد الحادث حادث بالقطع ، لكن منطوقنا ومذكورنا ومقروؤنا ومتلونا بهذه الأصوات الحادثة قديم ، كما أن ذكرنا حروف النار بلساننا كان المذكور بهذه الحروف محرقا وأصواتنا وتقطيع أصواتنا غير محرق إلا أن يقول قائل : حروف النار عبارة عن نفس النار. قلنا : إن كان كذلك ، فحروف النار محرقة وحروف القرآن إن كان عبارة عن نفس المقروء فهي قديمة ، وكذلك المخطوط برقوم النار والمكتوب به محرق لأنه الأوراق من غير إحراق واحتراق ، فهذه أربع درجات في الوجود تشتبه على العوام لا يمكنهم إدراك تفاصيلها وخاصة كل واحدة منهن ، فلذلك لا نخوض بهم فيها لا لجهلنا بحقيقة هذه الأمور وكنه تفاصيلها. إن النار من حيث إنها في التنور توصف بأنها محرقة وخامدة ومشتعلة ، ومن حيث إنها في اللسان يوصف بأنها عجمي وتركي وعربي وكثيرة الحروف وقليلة الحروف ، وما في التنور لا ينقسم إلى العجمي والتركي والعربي ، وما في اللسان لا توصف بالخمود والاشتعال ، وإذا كان مكتوبا على البياض يوصف بأنه أحمر وأخضر وأسود وأنه بقلم المحقق أو الثلث والرقاع ، أو قلم النسخ وهو في اللسان لا يمكن أن يوصف بذلك ، واسم النار يطلق على ما في التنور وما في القلب وما في اللسان وما على القرطاس ، لكن باشتراك الاسم فأطلق على ما في التنور حقيقة وعلى ما في الذهن من العلم لا بالحقيقة ولكن بمعنى أنه صورة محاكية للنار الحقيقي ، كما أن ما يرى في المرآة يسمى إنسانا ونارا لا بالحقيقة ولكن بمعنى إنها صورة محاكية للنار الحقيقي والإنسان وما في اللسان من الكلمة يسمى باسمه بمعنى ثالث ، وهو أنه دلالة دالة على ما في الذهن وهذا يختلف بالاصطلاحات ، والأول والثاني لا اختلاف فيهما ، وما في القرطاس يسمى نارا بمعنى رابع ، وهو أنها رقوم تدل بالاصطلاح على ما في اللسان ومهما فهم اشتراك اسم القرآن والنار وكل شيء من هذه الأمور الأربعة ، فإذا ورد الخبر أن القرآن في قلب العبد وأنه في لسان القارئ وأنه صفة ذات الله صدق بالجميع وفهم معنى الجميع ، ولم يتناقص عند الأذكياء وصدق بالجميع مع الإحاطة بحقيقة المراد ، وهذه أمور جلية دقيقة لا أجلى منها عند الفطن الذكي ولا أدق ،