وأغمض منها عند البليد الغبي ، فحق البليد أن يمنع من الخوض فيها ويقال له : قل القرآن غير مخلوق واسكت ولا تزد عليه ولا تنقص ولا تفتش عنه ولا تبحث ، وأما الذكي فيروح عن غمه هذا الإشكال في لحظة ويوصى بأن لا يحدث العامي به حتى لا يكلفه ما ليس في طاقته ، وهكذا جميع موضع الإشكالات في الظواهر فيها حقائق جلية لأرباب البصائر ملتبسة على العميان من العوام ، فلا ينبغي أن يظن بأكابر السلف عجزهم عن معرفة هذه الحقيقة ، وإن لن يحرروا ألفاظها تحرير صنعة ولكنهم عرفوه وعرفوا عجز العوام فسكتوا عنهم وأسكتوهم وذلك عين الحق والصواب. لا أعني بأكابر السلف الأكابر من حيث الجاه والاشتهار ، ولكن من حيث الغوص على المعاني والاطلاع على الأسرار ، وعند هذا ربما انقلب الأمر في حق العوام واعتقدوا في الأشهر أنه الأكبر وذلك سبب آخر من أسباب الضلال.
فصل
فإن قال قائل : العامي إذا منع من البحث والنظر لم يعرف الدليل ، ومن لم يعرف الدليل كان جاهلا بالمدلول ، وقد أمر الله تعالى كافة عباده بمعرفته. أي بالإيمان به والتصديق بوجوده أولا ، وبتقديسه عن سمات الحوادث ومشابهة غيره ثانيا ، وبوحدانيته ثالثا ، وبصفاته من العلم والقدرة ونفوذ المشيئة وغيرها رابعا ، وهذه الأمور ليست ضرورية فهي إذا مطلوبة ، وكل علم مطلوب فلا سبيل إلى انتقاصه وتحصيله إلا بشبكة الأدلة والنظر في الأدلة والتفطن لوجه دلالتها على المطلوب وكيفية إنتاجها وذلك لا يتم إلا بمعرفة شروط البراهين وكيفية ترتيب المقدمات واستنتاج النتائج ، وينجز ذلك شيئا فشيئا إلى تمام علم البحث واستيفاء علم الكلام إلى آخر النظر في المعقولات ، وكذلك يجب على العامي أن يصدق الرسولصلىاللهعليهوسلم في كل ما جاء به ، وصدقه ليس بضروري بل هو بشر كسائر الخلق فلا بدّ من دليل يميزه عن غيره ممن تحدى بالنبوة كاذبا ولا يمكن ذلك إلا بالنظر في المعجزة ومعرفة حقيقة المعجزة وشروطها إلى آخر النظر في النبوات وهو لب علم الكلام.
قلنا : الواجب على الخلق الإيمان بهذه الأمور ، والإيمان عبارة عن تصديق جازم لا تردد فيه ولا يشعر صاحبه بإمكان وقوع الخطأ فيه ، وهذا التصديق الجازم يحصل على ست مراتب.
الأولى : وهي أقصاها ما يحصل بالبرهان المستقصى المستوفى شروطه المحرر أصوله ومقدماته درجة درجة وكلمة كلمة حتى لا يبقى مجال احتمال وتمكن التباس ، وذلك هو الغاية القصوى ، ربما يتفق ذلك في كل عصر لواحد أو اثنين ممن ينتهي إلى تلك الرتبة ، وقد يخلو العصر عنه ولو كانت النجاة مقصورة على مثل المعرفة لقلّت النجاة وقلّ الناجون.
الثانية : أن يحصل بالأدلة الوهمية الكلامية المبنية على أمور مسلمة مصدق بها لإشهارها بين أكابر العلماء وشناعة إنكارها ونفرة النفوس عن إبداء المراء فيها ، وهذا الجنس أيضا يفيد في بعض الأمور وفي حق بعض الناس تصديقا جازما بحيث لا يشعر صاحبه بإمكان خلافه أصلا.
الثالثة : أن يحصل التصديق بالأدلة الخطابية ، أعني القدرة التي جرت العادة باستعمالها في