المحاورات والمخاطبات الجارية في العادات ، وذلك يفيد في حق الأكثرين تصديقا ببادي الرأي وسابق الفهم إن لم يكن الباطن مشحونا بالتعصب وبرسوخ اعتقاد على خلاف مقتضى الدليل ، ولم يكن المشنع مشغوفا بتكلف المماراة والتشكك ومنتجعا بتحديق المجادلين في العقائد ، وأكثر أدلة القرآن من هذا الجنس ، فمن الدليل الظاهر المقيد للتصديق قولهم : لا ينتظم تدبير المنزل بمدبرين ، فلو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ، فكل قلب باق على الفطرة غير مشوش بمماراة المجادلين يسبق من هذا الدليل إلى فهمة تصديق جازم بوحدانية الخالق ، لكن لو شوشه مجادل وقال : لم يبعد أن يكون العالم بين إلهين يتوافقان على التدبير ولا يختلفان فإسماعه هذا القدر يشوش عليه تصديقه ، ثم ربما يعسر سلّ هذا السؤال ودفعه في حق بعض الأفهام القاصرة فيستولي الشك ويتعذر الرفع ، وكذلك من الجلي أن من قدر على الخلق فهو على الإعادة أقدر ، كما قال : (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) [يس : ٧٩]. فهذا لا يسمعه أحد من العوام ذكي أو غبي إلا ويبادر إلى التصديق ، ويقول : نعم ليست الإعادة بأعسر من الابتداء بل أهون ، ويمكن أن يشوش عليه بسؤال ربما يعسر عليه فهم جوابه ، والدليل المستوفى هو الذي يفيد التصديق بعد تمام الأسئلة وجوابها بحيث لا يبقى للسؤال مجال والتصديق يحصل قبل ذلك.
الرابعة : التصديق لمجرد السماع ممن حسن الاعتقاد فيه بسبب كثرة ثناء الخلق عليه ، فإن من حسن اعتقاده في أبيه وأستاذه أو في رجل من الأفاضل المشهورين قد يخبره عن شيء كموت شخص أو قدوم غائب أو غيره ، فيسبق إليه اعتقاد فيه ، فالمجرب بالصدق والورع والتقوى مثل الصديق رضي الله عنه إذا قال قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم كذا ، فكم من مصدق به جزما وقابل له قبولا مطلقا لا مستند لقوله إلا حسن اعتقاده فيه ، فمثله إذا لقن العامي اعتقادا وقال له : اعلم أن خالق العالم واحد قادر وأنه بعث محمدا صلىاللهعليهوسلم رسولا بادر إلى التصديق ولم يمازجه ريب ولا شك في قوله ، وكذلك اعتقاد الصبيان في آبائهم ومعلميهم فلا جرم يسمعون الاعتقادات ويصدقون بها ويستمرون عليها من غير حاجة إلى دليل وحجة.
الرتبة الخامسة : التصديق به الذي يسبق إليه القلب عند سماع الشيء مع قرائن أحوال لا تفيد القطع عند المحقق ولكن يلقي في قلب العوام اعتقادا جازما ، كما إذا سمع بالتواتر مرض رئيس البلد ثم ارتفع صراخ وعويل من داره ، ثم يسمع من أحد غلمانه أنه قد مات اعتقد العامي جزما أنه مات وبنى عليه تدبيره ولا يخطر بباله أن الغلام ربما قال ذلك عن إرجاف سمعه ، وأن الصراخ والعويل لعله عن غشية أو شدة مرض أو سبب آخر ، لكن هذه خواطر بعيدة لا تخطر للعوام فتنطبع في قلوبهم الاعتقادات الجازمة ، وكم من أعرابي نظر إلى أسارير وجه رسول اللهصلىاللهعليهوسلم وإلى حسن كلامه ولطف شمائله وأخلاقه فآمن به وصدقه جزما لم يخالجه ريب من غير أن يعالجه بمعجزة يقيمها ويذكر وجه دلالتها.
الرتبة السادسة : أن يسمع القول فيناسب طبعه وأخلاقه ، فيبادر إلى التصديق لمجرد موافقته لطبعه لا