من حسن اعتقاده في قائله ، ولا من قرينة تشهد له ، لكن لمناسبة ما في طباعه ، فالحريص على موت عدوه وقتله وعزله يصدق جميع ذلك بأدنى إرجاف ويستمر على اعتقاده جازما ، وبلو أخبر بذلك في حق صديقه أو بشيء يخالف شهوته هواه توقف فيه أو أباه كل الإباء ، وهذه أضعف التصديقات وأدنى الدرجات لأن ما قبله استند إلى دليل ما. وإن كان ضعيفا من قرينة أو حسن اعتقاد في المخبر أو نوع من ذلك وهي أمارات يظنها العامي أدلة فتعمل في حقه عمل الأدلة فإذا عرفت مراتب التصديق ، فاعلم أن مستند إيمان العوام في هذه الأسباب وأعلى الدرجات في حقه أدلة القرآن وما يجري مجراه مما يحرك القلب إلى التصديق ، ولا ينبغي أن يجاوز بالعامي إلى ما وراء أدلة القرآن وما في معناه من الجليات المسكنة للقلوب المستجرة لها إلى الطمأنينة والتصديق وما وراء ذلك ليس على قدر طاقته ، وأكثر الناس آمنوا في الصبا وكان سبب تصديقهم مجرد التقليد للآباء والمعلمين لحسن ظنهم بهم وكثرة ثنائهم على أنفسهم ، وثناء غيرهم عليهم وتشديدهم النكير بين أيديهم على مخالفيهم ، وحكايات أنواع النكال النازل بمن لا يعتقد اعتقادهم وقولهم إن فلانا اليهودي في قبره مسخ كلبا ، وفلانا الرافضي انقلب خنزيرا ، أو حكايات منامات وأحوال هذا الجنس ينغرس في نفوس الصبيان النفرة عنه والميل إلى ضده حتى ينزع الشك بالكلية عن قلبه ، فالتعلم في الصغر كالنقش في الحجر ، ثم يقع نشوؤه عليه ولا يزال يؤكد ذلك في نفسه ، فإذا بلغ استمر على اعتقاده الجازم تصديقه المحكم الذي لا يخالجه فيه ريب ، ولذلك ترى أولاد النصارى والروافض والمجوس والمسلمين كلهم لا يبلغون إلا على عقائد آبائهم واعتقاداتهم في الباطل والحق جازمة. لو قطعوا إربا إربا لما رجعوا عنها وهم قط لم يسمعوا عليه دليلا لا حقيقيا ولا رسميا ، وكذا ترى العبيد والإماء يسبون من المشرك ولا يعرفون الإسلام ، فإذا وقعوا في أسر المسلمين وصحبوهم مدة ورأوا ميلهم إلى الإسلام مالوا معهم واعتقدوا اعتقادهم وتخلقوا بأخلاقهم. كل ذلك لمجرد التقليد والتشبيه بالتابعين ، والطباع مجبولة على التشبيه لا سيما طباع الصبيان وأهل الشباب فبهذا يعرف أن التصديق الجازم غير موقوف على البحث وتحرير الأدلة.
فصل
لعلك تقول : لا أنكر حصول التصديق الجازم في قلوب العوام بهذه الأسباب ، ولكن ليس ذلك من المعرفة في شيء ، وقد كلف الناس المعرفة الحقيقية دون اعتقاد هو من جنس الجهل الذي لا يتميز فيه الباطل على الحق. فالجواب : أن هذا غلط ممن ذهب إليه ، بل سعادة الخلق في أن يعتقدوا الشيء على ما هو عليه اعتقادا جازما لتنتقش قلوبهم بالصورة الموافقة لحقيقة الحق ، حتى إذا ماتوا وانكشف لهم الغطاء فشاهدوا الأمور على ما اعتقدوها لم يفتضحوا ولم يحترقوا بنار الخزي والخجلة ولا بنار جهنم ثانيا ، وصورة الحق إذا انتقش بها قلبه فلا نظر إلى السبب المفيد له أهو دليل حقيقي أو رسمي أو إقناعي ، أو قبول بحسن الاعتقاد في قائلة أو قبول لمجرد التقليد من غير سبب فليس المطلوب الدليل المقيد ، بل الفائدة وهي حقيقة الحق على ما هي عليه فمن اعتقد حقيقة الحق في الله وفي صفاته وكتبه ورسله واليوم الآخر على ما هو عليه فهو سعيد ، وإن لم يكن ذلك بدليل محرر كلامي ولم يكلف الله