ليس مثل وجود الإنسان الذي يحصل بعد العدم ، ويبقى دائما إما في جنة عالية لا تفنى وإما في هاوية لا تنقطع ، (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) دليل على أن الوجود الحقيقي الذي له تبارك وتعالى وهو الوجود الذي يفيد وجود غيره ولا يستفيد الوجود من غيره ليس إلا له تبارك وتعالى فقوله : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ). دليل على إثبات ذاته المنزه المقدس والصمدية نفي وإضافة نفي الحاجة عنه واحتياج غيره إليه ، والأحدية ولم يلد إلى آخر السورة سلب ما يوصف به غيره تعالى عنه ، فلا طريق في معرفة ذات الله تعالى أبين وأوضح من سلب صفات المخلوقات عنه.
فصل في كلام حول الصفات
يتخيل بعض الناس كثرة في ذات الله تعالى من طريق تعدد الصفات وقد صح قول من قال في الصفات لا هو ولا غيره ، وهذا التخيل يقع من توهم التغاير ولا تغاير في الصفات مثال ذلك : أن إنسانا يعلم صورة الكتاب وله علم بصورة بسم الله التي تظهر تلك الصورة على القرطاس ، وهذه صفة واحدة وكمالها أن يكون المعلوم تبعا لها ، فإنه إذا حصل العلم بتلك الكتابة ظهرت الصورة على القرطاس بلا حركة يد وواسطة قلم ومداد ، فهذه الصفة من حيث إن المعلوم انكشف بها يقال لها علم ، ومن حيث إن الألفاظ تدل عليها يقال لها القدرة ، ولا تغاير هاهنا بين العلم والقدرة والكلام ، فإن هذه صفة واحدة في نفسها ولا تكون هذه الاعتبارات الثلاثة واحدة ، وكل من كان أعور ينظر بالعين العوراء فلا يرى إلا مطلق الصفة فيقول : هو هو ، وإذا التفت إلى الاعتبارات الثلاث فقال : هي غيره ، ومن اعتبر مطلق الصفة مع الاعتبارات فقد نظر بعينين صحيحتين اعتقد أنها لا هو ولا غيره والكلام في صفات الله تعالى وإن كان مناسبا لهذا المثال فهو مباين له بوجه آخر ، وتفهيم هذه المعاني بالكتابة عسير غير يسير ، وأما الوهم الذي وقع لبعض الناس أن المثال في حق أوصاف الله تعالى لا يجوز فيدفعه أن ذلك المتوهم لم يميز بين المثل والمثال ، فإن المثال يحتاج إليه كما ذكرناه في أن يسترق للمعنى المعقول من الصور المحسوسة صورة تضحه ، وتوصل ذلك المعنى المعقول إلى فهم المستفيد ، وأما المحسوس فلا يحتاج إلى مثال لأن المحسوس بعينه مندرج في الخيال. ألا ترى أن من رأى المقدحة والزند والنار تحصل بينهما لا يحتاج إلى مثال لهذه الأشياء ، ولكن المعقول المحض الذي لا يندرج في الخيال ولا يضبطه الخيال فإنه يحتاج إلى الاستعانة بالخيال حتى يصل إلى فهم الضعفاء ، وليس لله تعالى مثل كما قال ، (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١]. ولكن له مثال ، وقول النبي عليه الصلاة والسلام : " إنّ الله تعالى خلق آدم على صورته". إشارة إلى هذا المثال ، فإنه لما كان تعالى وتقدس موجودا قائما بنفسه حيا سميعا بصيرا عالما قادرا متكلما فالإنسان كذلك ، ولو لم يكن الإنسان بهذه الأوصاف موصوفا لم يعرف الله تعالى ، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام : " من عرف نفسه فقد عرف ربه" ، فإن كل ما لم يجد الإنسان له من نفسه مثالا يعسر عليه التصديق به والإقرار ، وقد أوحى الله تعالى إلى بعض الأنبياء عليهم الصلاة والسلام : أيها الإنسان اعرف نفسك تعرف ربك ، ولذلك لا يحيط علم الإنسان بأخص وصف الله تعالى ، لأنه ليس في المبدعات والمخلوقات