مع كثرة عملهم ، وحب الجاه والمال والدنيا سم قاتل ، والرئاسة والشهرة يورثان الكبر والدخول في الدنيا وهما فساد الدين. قال بعضهم : ما عملت عملا واطّلع عليه الناس إلا أسقطته.
وأما طول الأمل : فإنه يمنع من حسن العمل ويصد عن الحق والتسويف من أعظم جنود الشيطان ، وأما الشح والهوى وإعجاب المرء بنفسه : فهن من المهلكات ...
وأما فحش الغذاء : فإنه يظلم القلب ويورث القسوة والبعد عن الله تعالى ، وطيب الغذاء ينور القلب ويورث الرقة والقرب من الله عزوجل. قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) [البقرة : ١٧٢] والطيبات هي الحلال : أطب مطعمك ومشربك وما عليك أن لا تقوم الليل ولا تصوم النهار ، وطيب المطعم أصل كبير في طريق القوم ، ولو قام العبد قيام السارية لم ينفعه ذلك ، حتى يعلم ما يدخل جوفه. وأسرع الناس جوازا على الصراط أكثرهم ورعا في الدنيا. يقول الله عزوجل : «عبدي تجوع تراني تورع تعرفني تجرد تصل إليّ» قال الله تعالى :» وأما الورعون فأستحيي أن أعذبهم» قال بعض السادة من الأكابر : عليك بالعلم والجوع والخمول والصوم فإن العلم نور يستضاء به ، والجوع حكمة. قال أبو يزيد : ما جعت لله يوما إلا وجدت في قلبي بابا من الحكمة لم أجده قبل. والخمول راحة وسلامة ، والصوم صفة صمدانية ما مثلها شيء لقوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١]. فمن تلبس بها أورث العلم والمعرفة والمشاهدة ، ولذلك قال تعالى :» كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا الذي أجزي به». ولخلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك والاشتغال بالدنيا وغلبة الشهوات على القلب يورث جميع الأوصاف المذمومة فلا طمع في القرب ما لم تبدل الأوصاف المذمومة بالمحمودة.
قال بعضهم : ما دام العبد ملوثا بالغير لا يصلح للقرب والمجالسة حتى يطهر قلبه من السوى. قال عثمان رضي الله عنه : لو طهرت القلوب لم تشبع من قراءة القرآن لأنها بالطهارة تترقى الى مشاهدة المتكلم دون غيره.
فصل
اعلم أن ما سوى الحق حجاب عنه. ولو لا ظلمة الكون لظهر نور الغيب ، ولو لا فتنة النفس لارتفعت الحجب ، ولو لا العوائق لانكشفت الحقائق ، ولو لا العلل لبرزت القدرة ، ولو لا الطمع لرسخت المحبة ، ولو لا حظ باق لأحرق الأرواح الاشتياق ، ولو لا البعد لشوهد الرب ، فإذا انكشف الحجاب تجشم هذه الأسباب وارتفعت العوائق بقطع هذه العلائق :
بدا لك سرّ طال عنك اكتتامه |
|
ولاح صباح كنت أنت ظلامه |
فأنت حجاب القلب عن سرّ غيبه |
|
ولولاك لم يطبع عليك ختامه |
فإن غبت عنه حلّ فيه وطنبت |
|
على منكب الكشف المصون خيامه |