وجاء حديث لا يملّ سماعه |
|
شهيّ إلينا نثره ونظامه |
قال بعضهم : إذا أراد الله بعبد سوءا سدّ عليه باب العمل وفتح عليه باب الكسل. جاء رجل إلى معاذ فقال : أخبرني عن رجلين أحدهما يجتهد في العبادة كثير العمل قليل الذنوب إلا أنه ضعيف اليقين يعتوره الشك. قال معاذ : ليحبطن شكه أعماله. قال : فأخبرني عن رجل قليل العمل إلا أنه قوي اليقين وهو في ذلك كثير الذنوب فسكت. فقال : والله لئن أحبط شك الأول أعمال بره ليحبطن يقين هذا ذنوبه كلها. قال فأخذه معاذ بيده. وقال : ما رأيت الذي هو أفقه من هذا.
فصل في عمل أبي يزيد البسطامي
قال أبو يزيد البسطامي رضي الله عنه : مكثت اثنتي عشرة سنة حدّاد نفسي ، وخمس سنين كنت أجلو مرآة قلبي ، وسنة أنظر فيما بينهما فإذا في وسطي زنار فعملت في قطعه خمس سنين أنظر كيف أقطعه فكشف لي فرأيت الخلق موتى فكبّرت عليهم أربع تكبيرات.
ومعنى هذا الكلام. والله أعلم. أنه عمل في مجاهدة نفسه وإزالة أدغالها وخبثها وما حشيت به من العجب والكبر والحرص والحقد والحسد وما شابه ذلك مما هو من مألوفات النفس ، فعمد إلى إزالة ذلك بأن أدخل نفسه كير التخويف ، ثم طرقها بمطارق الأمر والنهي حتى أجهده ذلك. فظن أنها قد تصفت ، ثم نظر في مرآة إخلاص قلبه ، فإذا بقايا من الشرك الخفي وهو الرياء والنظر إلى الأعمال وملاحظة الثواب والعقاب والتشوف إلى الكرامات والمواهب. وهذا شرك في الإخلاص عند أهل الاختصاص وهو الزنار الذي أشار إليه فعمل في قطعه : يعني قطع نفسه وفطمها عن العلائق والعوائق وأعرض عن الخلائق حتى أمات من نفسه ما كان حيا وأحيا من قلبه ما كان ميتا حتى ثبت قدمه في شهود القدم وأنزل ما سواه منزلة العدم. فعند ذلك كبّر على الخلق أربع تكبيرات وانصرف الى الحق ، ومعنى قوله : كبرت على الخلق أربع تكبيرات لأن الميت يكبر عليه أربع تكبيرات ، ولأن حجاب الخلق عن الحق أربع : النفس ، والهوى ، والشيطان ، والدنيا. فأمات نفسه وهواه ورفض شيطانه ودنياه فلذلك كبّر على كل واحدة ممن فني عنه تكبيرة لأنه هو الأكبر وما سواه أذل وأصغر ثم اعلم أنك لا تصل إلى منازل القربات حتى تقطع ست عقبات :
العقبة الأولى : فطم الجوارح عن المخالفات الشرعية.
العقبة الثانية : فطم النفس عن المألوفات العادية.
العقبة الثالثة : فطم القلب عن الرعونات البشرية.
العقبة الرابعة : فطم السر عن الكدورات الطبيعية.
العقبة الخامسة : فطم الروح عن البخارات الحسية.
العقبة السادسة : فطم العقل عن الخيالات الوهمية.