وأمّا قولهم الإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع ، بل هو ـ أيضا ـ قدح في العقل ، فإن أفعال العباد من أقوى الأسباب لما نيط بها ، فمن جعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أو جعل المتقين كالفجار ، فهو من أعظم الناس جهلا وأشدهم كفرا ، بل ما أمر الله به من العبادات والدعوات والعلوم والأعمال من أعظم الأسباب فيما نيط بها من العبادات ، وكذلك ما نهى عنه من الكفر والفسوق والعصيان هي من أعظم الأسباب لما علّق بها من الشقاوات» (١).
ويقول ـ رحمهالله ـ في موضع آخر : «ومجرد الأسباب لا يوجب حصول المسبب ، فإن المطر إذا نزل وبذر الحبّ لم يكن ذلك [كافيا] في حصول النبات بل لا بد من ريح مربية بإذن الله ، ولا بد من صرف الانتفاء عنه ، فلا بد من تمام الشروط ، وزوال الموانع وكل ذلك بقضاء الله وقدره ، وكذلك الولد لا يولد بمجرد إنزال الماء في الفرج ، بل كم من أنزل ولم يولد له ؛ بل لا بد من أن الله شاء خلقه فتحبل المرأة وتربّيه في الرحم ، وسائر ما يتم به خلقه من الشروط وزوال الموانع.
وكذلك أمر الآخرة ليس بمجرد العمل ينال الإنسان السعادة ، بل هو سبب ولهذا قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «إنّه لن يدخل أحدكم الجنة بعمله ، قالوا : ولا أنت يا رسول الله! قال : ولا أنا ، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل» وقد قال : (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فهذه باء السبب ، أي بسبب أعمالكم ، والذي نفاه النبي صلىاللهعليهوسلم باء المقابلة كما يقال : اشتريت هذا بهذا ، أي : ليس العمل عوضا وثمنا كافيا في دخول الجنة ، بل لا بد من عفو الله وفضله ورحمته ، فبعفوه يمحو السيئات ، وبرحمته يأتي بالخيرات ، وبفضله يضاعف البركات» (٢).
__________________
(١) «مجموع الفتاوى» (٨ / ١٦٩ ـ ١٧٦).
(٢) «مجموع الفتاوى» : (٨ / ٧٠ ، ٧١) وانظر في المسألة الثانية ما كتبه العلامة ابن قيم الجوزيّة في كتابه : «شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل».