وما كان هذا الخطأ الشنيع ليكون في مسألة لم تقررها أدلة الكتاب والسنّة وسيرة سلف الأمة وأقوالهم فحسب ، بل وحتى الفطر والعقول تقرّ بذلك لو لا تلك النظرة الخاطئة الأولى إلى حقيقة القضاء والقدر.
ولهذا قال بعض العلماء : الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد ، ومحو الأسباب أن تكون أسبابا نقص في العقل ، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع (١).
ويبيّن ذلك شيخ الإسلام ابن تيميّة ـ رحمهالله ـ بقوله : إن الالتفات إلى السبب هو اعتماد القلب عليه ورجاؤه والاستناد إليه ، وليس في المخلوقات ما يستحق هذا ، لأنه ليس مستقلا ، ولا بد له من شركاء وأضداد ، ومع هذا كلّه فإن لم يسخره مسبب الأسباب لم يسخر.
وأما قولهم : محو الأسباب أن تكون أسبابا : نقص في العقل ، فهو كذلك وهو طعن في الشرع أيضا ، فإن كثيرا من أهل الكلام أنكروا الأسباب بالكلية وجعلوا وجودها كعدمها ، كما أن أولئك الطبيعيين جعلوها عللا مقتضية ، وكما أن المعتزلة فرقوا بين أفعال الحيوان وغيرها ، والأقوال الثلاثة باطلة ؛ فإن الله يقول : (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) وقال تعالى : (وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) قال تعالى : (يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ) وقال تعالى : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) وأمثال ذلك.
فمن قال يفعل عندها لا بها فقد خالف لفظ القرآن مع أن الحس والعقل يشهد أنّها أسباب ، ويعلم الفرق بين الجهة وبين العين في اختصاص أحدهما بقوة ليست في الآخر ، وبين الخبز والحصى في أن أحدهما يحصل به الغذاء دون الآخر.
__________________
(١) «مجموع الفتاوى» (٨ / ٧٠ و ١٦٩).