معنى الآيات :
يقول تعالى لرسوله في تقرير عقيدة البعث والجزاء ، اذكر يا رسولنا (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) الذي كانوا يقتدون به ويتبعونه فيتقدم ذلك الإمام ووراءه أتباعه وتوزع الكتب عليهم واحدا واحدا فمن أعطى كتابه بيمينه تشريفا له وتكريما ، فأولئك الذين أكرموا بإعطائهم كتبهم بأيمانهم ، (يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ) ويحاسبون بما فيه (وَلا يُظْلَمُونَ) أي لا ينقصون مقدار فتيل لا تنقص حسناتهم ، ولا بزيادة سيئاتهم (١). واذكر هذا لهم تعظهم به لعلهم يتعظون ، وقوله تعالى : (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ) أي الدنيا (أَعْمى) لا يبصر هذه الحجج والآيات والدلائل وأصر على الشرك ، والتكذيب والمعاصي (فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى) أي أشد عمى (وَأَضَلُّ سَبِيلاً) فلا يرى طريق النجاة ولا يسلكه حتى يقع في جهنم. وقوله : (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ) (٢) أي يصرفونك (عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا (٣) إِلَيْكَ) من توحيدنا والكفر بالباطل وأهله. (لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ) أي لتقول علينا غير الحق الذي أوحيناه إليك ، وإذا لو فعلت بأن وافقتهم على ما طلبوا منك ، من الإغضاء على شركهم والتسامح معهم إقرارا لباطلهم ، ولو مؤقتا ، (لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً) لهم وكانوا أولياء لك ، وذلك أن المشركين في مكة والطائف ، واليهود في المدينة كانوا يحاولون جهدهم أن يستنزلوا الرسول على شيء من الحق الذي يأمر به ويدعو إليه مكرا منهم وخديعة سياسية إذ لو وافقهم على شيء لطالبوا بآخر ، ولقالوا قد رجع إلينا ، فهو إذا يتقوّل ، وليس بالذي يوحى إليه بدليل قبوله منا كذا وكذا وتنازله عن كذا وكذا. وقوله تعالى : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ) أي على الحق حيث عصمناك (لَقَدْ كِدْتَ) أي قاربت (تَرْكَنُ) (٤) أي تميل (إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) بقبول بعض اقتراحاتهم (إِذاً) أي لو ملت إليهم ، وقبلت منهم ولو شيئا يسيرا (لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ (٥) الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ) (٦) ، أي لضاعفنا عليك العذاب في الدنيا والآخرة ثم لا تجد لك نصيرا ينصرك إذا نحن خذلناك وعذبناك وقوله تعالى في حادثة أخرى وهي أنهم لما فشلوا في المحاولات السلمية أرادوا استعمال القوة فقرروا إخراجه من مكة بالموت أو الحياة فأخبر تعالى
__________________
(١) لم يذكر من أوتي كتبهم بشمائلهم إذ هم الذين خسروا أنفسهم اكتفاء بذكر من أوتوا كتبهم بأيمانهم ، وقد ذكر في أول السورة : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) وذكر في سورتي الحاقة والانشقاق.
(٢) عدي فعل يفتنونك بعن لأنه مضمن معنى فعل يتعدّى بها وهو الصرف يقال : صرفه عن كذا. أي يصرفونك.
(٣) الآية مسوقة مساق الامتنان على النبي صلىاللهعليهوسلم حيث عصمه ، وفيها بيان مدى ما كان المشركون يريدونه من صرف النبي صلىاللهعليهوسلم عن الحق الذي جاءه وهو يدعو إليه من التوحيد.
(٤) الركون : الميل بالركن الذي هو الجانب من جسد الإنسان واستعمل في الموافقة بعلاقة القرب.
(٥) هذه الجملة جزاء لجملة : (لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ) إذ تقدير الكلام لو ركنت إليهم لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات.
(٦) جائز أن يكون المراد بعذاب الدنيا : تراكم المصائب والأزراء في مدّة الحياة وعذاب الممات أن يموت مكمودا مستذلا بين من فازوا عليه بشرف سقوطه بينهم وضياع ما كان يأمله ويدعو إليه.