معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في ذكر نبذ من قصص الأولين للعظة والاعتبار ، ولإقامة الحجة على مشركي قريش فقال تعالى : (ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي بعد تلك الأمم الخالية أرسلنا موسى بن عمران وأخاه هارون بسلطان مبين أي بحجج وبراهين بينة دالة على صدق موسى وما يدعو إليه من عبادة الله وتوحيده فيها والخروج ببني إسرائيل إلى الأرض المباركة أرض الشام إلى فرعون ملك مصر يومئذ وملئه من أشراف قومه وعليتهم فاستكبروا عن قبول دعوة الحق وكانوا عالين على أهل تلك البلاد فاهرين لها مستبدين بها وقالوا ردا على دعوة موسى وهارون ما أخبر تعالى به في قوله : (فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ) أي خاضعون مطيعون. هكذا أعلنوا متعجبين من دعوة موسى وهارون إلى الإيمان برسالتهما فقالوا : أنؤمن لبشر من مثلنا أي كيف يكون هذا أنتبع رجلين مثلنا فنصبح نأتمر بأمرهما وننتهي بنهيهما وكيف يتم ذلك وقومهما يعنون بني إسرائيل لنا عابدون. أي خاضعون لنا ومطيعون لأمرنا ونهينا. قال تعالى : (فَكَذَّبُوهُما) ، فيما دعواهما إليه من الإيمان والتوحيد وإرسال بني إسرائيل معهما إلى أرض الميعاد فترتب على تكذيبهم لرسولي الله موسى وهارون هلاكهم فكانوا من المهلكين حيث أغرقهم الله أجمعين ، وقوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى (١) الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) ، ويخبر تعالى أنه بعد إهلاك فرعون ونجاة بني إسرائيل آتى موسى التوراة من أجل هداية بني إسرائيل عليها لأنها تحمل النور والهدى. هذه أيادي الله على خلقه وآياته فيهم فسبحانه من إله عزيز رحيم.
وقوله تعالى : (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ (٢) وَأُمَّهُ) أي جعل عيسى ووالدته مريم (آيَةً) حيث خلق عيسى من غير أب فهي آية دالة على قدرة الله وعلمه ورحمته وحكمته وهذه موجبة الإيمان به وعبادته وتوحيده والتوكل عليه والإنابة والتوبة إليه. وقوله تعالى : (وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ) (٣) أي أنزلنا مريم وولدها بعد اضطهاد اليهود لهما ربوة (٤) عالية صالحة للإستقرار عليها بها فاكهة وماء عذب جار إكرام الله تعالى له ولوالدته فسبحان المنعم على عباده المكرم لأوليائه.
__________________
(١) خصّ موسى بإيتائه الكتاب دون هارون لأنّ هارون يوم إعطاء موسى الكتاب (التوراة) كان مع قومه ، وموسى كان وحده في الطور للمناجاة.
(٢) أدمج أمّه في الذكر لتسفيه اليهود في قولهم في مريم بهتانا عظيما.
(٣) الربوة : المكان المرتفع من الأرض ، وهي مثلثة الراء تضم وتفتح وتكسر ، وهي بفلسطين أو مدينة الرملة وهي من أرض فلسطين.
(٤) المعين : هو الماء الجاري على ظهر الأرض ظاهر للعيون.