لما خلق آدم مسح ظهره فأخرج منه ذرّيته وأشهدهم على أنفسهم ، ولهذا جاء العطف بثم إذ قال (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها) أي بعد أن مسح على ظهر آدم وأخرج ذرّيته من ظهره وأشهدهم على أنفسهم خلق حواء من ضلعه الأيسر ، وهذا برهان وآخر في قوله (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ) وهي الإبل والبقر والغنم ضأن وما عز وهي ذكر وأنثى فالذكر زوج والأنثى زوج فهي ثمانية أزواج وجائز أن يكون أصل هذه الأنعام قد أنزله من السماء كما أنزل آدم وحواء من السماء ، و (١) جائز أن يكون أنزل الماء فنبت العشب وتكونت هذه الأنعام من ذلك فالأصل الإنزال من السماء وتدرج الخلق كان في الأرض. وبرهان رابع في قوله (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ) (٢) (خَلْقٍ) أي نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظاما ثم نكسو العظام لحما فإذا هو إنسان كامل وقوله (فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ) هي ظلمة بطن الأم ، ثم ظلمة الرحم ، ثم ظلمة المشيمة ، وهي غشاء يكون للولد وفي الحيوان يقال له السّلي وقوله بعد ذكر هذه البراهين قال (ذلِكُمُ اللهُ (٣)رَبُّكُمْ) أي خالقكم ومعبودكم الحق (لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي لا معبود إلا هو إذ لا تصلح العبادة إلّا له (فَأَنَّى (٤) تُصْرَفُونَ) أي كيف تصرفون عن الحق إلى الباطل ، وعن الهدى إلى الضلال إن أمركم عجب. وقوله في الآية (٧) (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ) أي بعد أن بيّن بالأدلة القاطعة وجوب الإيمان به ووجوب عبادته ، وأنه الرب الحق وإله الحق أعلم عباده أن كفرهم به لا يضره أبدا لأنه غني عنهم وعن سائر خلقه إلا أنه لرحمته بعباده لا يرضى لهم الكفر لما يسببه لهم من شقاء وخسران ، كما انهم إن آمنوا وشكروا يرضه لهم فيثيبهم أحسن ثواب ويجزيهم أحسن جزاء. وقوله (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) هذا مظهر من مظاهر عدله بين عباده وهو أن نفسا ذات وزر أي ذنب لا تحمل وزر أي ذنب نفس أخرى بل كل نفس تحمل وزرها وتتحمل تبعته ونتائجه وحدها. وقوله تعالى (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ) أي بعد الموت (فَيُنَبِّئُكُمْ
__________________
(١) ووجه ثالث وهو جائز أن يكون الانزال بمعنى التسخير نحو وأنزلنا الحديد أي ذللناه لكم تصنعون منه السيوف والرماح وهذا كقولك نزل فلان على رأي فلان قال الشاعر :
أنزلني الدهر على حكمه |
|
من شاهق عال إلى خفض |
(٢) أي طورا بعد طور لقوله صلىاللهعليهوسلم «إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فيفخ فيه الروح ويأمر يكتب أربع كلمات رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد» الحديث «مسلم».
(٣) هذه الجملة كالفذلكة والنتيجة لما سبق من ذكر آيات العلم والقدرة والرحمة الموجبة للألوهية الحقة للرب الحق سبحانه وتعالى.
(٤) فأنى تصرفون الاستفهام للانكار مشوبا بالتعجب من حال انصرافهم عن الحق بعد ظهور أدلته وسطوع براهينه ، عجبا لكم كيف صرفتم وبناء الفعل للمجهول إشارة واضحة إلى أنهم يصرفون بقوى غير قواهم وهي قوى الشياطين التي تزين لهم الباطل وتبغض لهم الحق.