معنى الآيات :
بعد تلك الدعوة الربانيّة لقريش إلى الإيمان والتوحيد والتصديق بالبعث والجزاء ، وما فيها من مظاهر لقدرة الله وعلمه وحكمته وعدله ، وبعد ذلك العرض لأحوال القيامة ، وبيان الجزاء لكل من الكافرين والمؤمنين فيها كأنه يرى رأي العين ، وبعد ذلك الترغيب والترهيب مما في الدنيا والآخرة والمشركون لا يزدادون إلا عتوا وطغيانا بعد كل ذلك قص الله تعالى على رسوله قصة موسى مع فرعون ليسلّيه بها ويصبره وليعلمه أن البلاء مهما اشتد يعقبه الفرج ، وأن الله ناصره على قومه كما نصر موسى على فرعون وقومه فقال تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا) أي قبلك يا رسولنا ـ موسى بن عمران بآياتنا (١) أي بأدلتنا وحججنا على صدق دعوته وصحة رسالته ، (وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي وبرهان ظاهر بيّن أرسلناه (إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ) (٢) فهامان وزير فرعون وقارون من أرباب الملايين وهو وإن لم يكن من آل فرعون لأنه من بني إسرائيل إلا أنه مالأ فرعون ووقف في صفه ، فلما بلغهم موسى دعوة ربه وأراهم الحجج والبراهين قالوا ساحر (٣) كذاب فرموه بقاصمتين السحر والكذب حماية لمصالحهم وخوفا من تغيير الوضع عليهم.
وقوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا) أي فلما جاءهم موسى بالصدق من عند الله كان ردّ الفعل منهم أن أمروا بقتل الذكور من أولاد الذين آمنوا معه ، واستحياء بناتهم للخدمة والامتهان وهو ما أخبر تعالى به في قوله : (قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ) وقوله تعالى (وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) عام في كل كيد كافر يبطله الله تعالى ولا يضر به أولياءه وقوله تعالى : (وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى) لا شك أن هذا القول الدال على طغيان فرعون كان بعد أن انهزم في ميادين عدة أراد أن يسترد بعض ما فقد فقال ذروني أقتل موسى أي اتركوني أقتل موسى (وَلْيَدْعُ (٤) رَبَّهُ) أي ليمنعه مني ، وعلل لقوله هذا بقوله إني أخاف أن يبدّل دينكم ، أي بعد أن يغلب عليكم فتدينون بدينه أو أن يظهر في الأرض الفساد بالقتل والفتن.
ورد موسى عليهالسلام بما أخبر تعالى به عنه في قوله : (وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي
__________________
(١) هي الآيات التسع.
(٢) خص بالذكر هامان وقارون لقوة تأثيرهما في البلاد وإدائرة الدولة وعز السلطان.
(٣) لما بهرتهم الآيات وعجزوا عن مقاومتها رموا موسى بالسحر واتهموه بالكذب كرد فعل وهروبا من المواجهة.
(٤) من الجائز أن يكون قد قال له بعض رجاله أما تخاف أن يدعو عليك ربه فتهلك فأجابه قائلا وليدع ربه.