معنى الآيات :
لقد تقدم في الآيات قبل هذه التنديد بالشرك وتوبيخ المشركين وتحديهم بدعاء شركائهم ليخلصوهم مما هم فيه من الذل والعذاب ، وكان شركهم باختيارهم الخاص وإرادتهم الحرة إذ تبرأ منهم من اختاروهم آلهة مع الله فعبدوهم معه. وفي هذه الآية يكشف تعالى عن خطئهم في الاختيار ، وذلك من وجهين : الأول أنه لا حق لهم في الاختيار. إذ الاختيار لخالق المخلوقات فيختار منها ما يشاء لنبوته أو طاعته أما الذي يخلق ولا يخلق فكيف يصح منه اختيار. والثانى بحكم أنهم مخلوقون مربوبون لله تعالى وهم يعلمون هذا إذ لو سألهم أحد : من خلقكم؟ لقالوا : الله ؛ كان المفروض فيهم والمطلوب منهم أن يطلبوا من الله تعالى خالقهم أن يختار لهم ما يعبدون ويبين لهم كيف يعبدون ، إذ هو مولاهم الحق ولا مولى لهم سواه أما أن يركبوا رؤوسهم ويختاروا بأنفسهم ما يعبدون فهذا ظلم منهم كبير استوجبوا به اللوم في الدنيا والعذاب في الآخرة. قال تعالى : (٦٨) (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ) .. أي وربك يا محمد يخلق ما يشاء ممن يريد خلقهم ويختار (١) من يشاء لما يشاء ممن يشاء من عباده لما يشاء من كمال أو نقصان. أما عبيده فليس لهم حق الاختيار وإنما عليهم السمع والطاعة قال تعالى : (ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) (٢) أي حق الاختيار بل الذي يختاره الله هو الذي يجب أن يختاره العبد. وقد كان النبي صلىاللهعليهوسلم يدعو ويقول : «اللهم خر لي واختر لي» وكان يعلم أصحابه دعاء الاستخارة كما يعلمهم السورة من القرآن ، ويحضهم على أن يختاروا في الأمر الواحد سبع مرات. وقوله تعالى : (سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) نزه تعالى نفسه عن شرك المشركين وباطل المبطلين وقوله (وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ) وهذا برهان أن الخيرة له (٣) وليس لغيره إذ الذي يعلم الظواهر والبواطن والبدايات والنهايات قبل البدء والمنتهى صاحب هذا العلم هو الذي يختار. أما الذي لا يعلم ما يكنه أخوه في صدره بل ولا ما يظهره آخر إلى جنبه أي لا يعلم عاقبته فكيف يصح منه الاختيار أو تكون له خيرة في شيء. وفوق ذلك أنه سبحانه وتعالى وهو الله الذي لا إله إلا هو أي المعبود الذي لا معبود بحق سواه الذي له الحمد
__________________
(١) قيل نزلت ردا على الوليد بن المغيرة حين قال : لو لا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم. كما هي ردّ على اختيارهم الشركاء ليشفعوا لهم يوم القيامة.
(٢) جائز أن يكون (ما) موصولا مفعولا به لفعل : يختار ، والعائد محذوف أي : ويختار الذي لهم فيه خيرة ، كما أنّ الخلق من خصائصه ، إذ قال (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ) فكذلك الاختيار له دون غيره ، وجائز أن يكون الوقف التام على (وَيَخْتارُ) ، وجملة (ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) مستأنفة لغرض تأكيد القصر على الله تعالى هو الخالق وحده وهو الذي يختار وحده وليس لأحد من الخلق الخلق والاختيار.
(٣) الخيرة : اسم مصدر الاختيار كالطيرة اسم مصدر التطير ولا نظير لهذه الصيغة في الأسماء (الطيرة والخيرة).