ولما أمره بالدعوة العامة أمره بالصبر العام ؛ لأن الدعوة لا تنفك عن الأذى ، فيحتاج صاحبها إلى صبر كبير ، فقال :
(وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (١٢٦) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (١٢٧) إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (١٢٨))
يقول الحق جل جلاله : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ) من آذاكم (فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) أي : إن صنع بكم صنيع سوء فافعلوا مثله ، ولا تزيدوا عليه. والعقوبة ، فى الحقيقة ، إنما هى فى الثانية. وسميت الأولى عقوبة ؛ لمشاكلة اللفظ. وقال الجمهور : إن الآية نزلت فى شأن حمزة بن عبد المطلب ، لما بقر المشركون بطنه يوم أحد ، قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «لئن أظفرنى الله بهم لأمثّلنّ بسبعين منهم». فنزلت الآية (١) ، فكفّر النبي صلىاللهعليهوسلم عن يمينه ، وترك ما أراد من المثلة. ولا خلاف أن المثلة حرام ، وقد وردت أحاديث بذلك. ومقتضى هذا : أن الآية مدنية. ويحتمل أن تكون الآية عامة ، ويكون ذكرهم حمزة على وجه المثال. وتكون ، على هذا ، مكية كسائر السورة.
واختلف العلماء فيمن ظلمه رجل فى مال ، ثم ائتمن عليه ، هل يجوز خيانته ، فى القدر الذي ظلمه فيه؟ فأجاز ذلك قوم ؛ لظاهر الآية ، ومنعه مالك ؛ لقوله صلىاللهعليهوسلم : «أدّ الأمانة لمن ائتمنك ، ولا تخن من خانك» (٢). قاله ابن جزى. (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ) ، ولم تعاقبوا من أساء إليكم ، (لَهُوَ) أي : الصبر (خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) ؛ فإن العقوبة مباحة ، والصبر أفضل من الانتقام ، ويحتمل أن يريد بالصابرين هنا العموم ، أو يريد المخاطبين ، كأنه قال : فهو خير لكم.
ثم صرح بالأمر لرسوله به ؛ لأنه أولى الناس به ؛ لزيادة علمه بالله ، فقال : (وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ) ؛ إلا بتوفيقه وتثبيته. روى أنه صلىاللهعليهوسلم قال لأصحابه : «أما أنا فأصبر كما أمرت ، فماذا تصنعون؟» قالوا : نصبر كما ندبنا. (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) ؛ على الكافرين ؛ حيث لم يؤمنوا ؛ حرصا عليهم. أو على المؤمنين ؛ لأجل ما فعل بهم. (وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) أي : لا يضيق صدرك بمكرهم ، ولا تهتم بشأنهم ، فأنا ناصرك عليهم. والضيق ـ بفتح الضاد مخفّفا ـ من ضيّق ؛ كميت وميّت. وقرئ بالكسر ، وهو مصدر. ويجوز أن يكون الضيق والضيق مصدرين ، معا ، لضاق.
__________________
(١) أخرجه الواحدي فى أسباب النزول (ص ٢٩١) عن ابن عباس. وأخرجه البزار (كشف الأستار ، ٢ / ٣٢٧) فى سياق أطول ، عن أبى هريرة ، وراجع طبقات ابن سعد (٣ / ١٢ ـ ١٣) وتفسير ابن كثير (٢ / ٥٩٢).
(٢) أخرجه أبو داود فى (البيوع والإجارات ، باب فى الرجل يأخذ حقه من تحت يده) ، والترمذي فى (البيوع ، ح ١٢٦٤) عن أبى هريرة رضي الله عنه.