(إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا) الكفر والمعاصي ، (وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) فى أعمالهم ، فهو معهم بالولاية والنصر والرعاية والحفظ. أو مع الذين اتقوا الله بتعظيم أمره. والذين هم محسنون بالشفقة على خلقه. أو مع الذين اتقوا ما يقطعهم عن الله ، والذين هم محسنون بشهود الله كما قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه». فهو معهم بالمحبة والوداد ؛ «فإذا أحببته كنت له». والله تعالى أعلم.
الإشارة : من شأن الصوفية : الأخذ بالعزائم ، والتمسك بالأحسن فى كل شىء ، ممتثلين لقوله تعالى : (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) (١). ولذلك قالوا : الصوفي : دمه هدر ، وماله مباح ؛ لأنه لا ينتصر لنفسه ، بل يدفع بالتي هى أحسن السيئة. فالصبر دأبهم ، والرضى والتسليم خلقهم.
وحقيقة الصبر هى : حبس القلب على حكم الرب ، من غير جزع ولا شكوى. ومواطنه أربعة : الطاعة ، والمعصية ، والنعمة ، والبلية. فالصبر على الطاعة : بالمبادرة إليها ، وعن المعصية : بتركها ، وعلى النعمة : بشكرها ، وأداء حق الله فيها ، وعلى البلية : بالرضى وعدم الشكوى بها.
وأقسام الصبر ستة : صبر فى الله ، وصبر لله ، وصبر مع الله ، وصبر بالله ، وصبر على الله ، وصبر عن الله. أما الصبر فى الله : فهو الصبر فى طلب الوصول إلى الله ، بارتكاب مشاق المجاهدات والرياضات. وهو صبر الطالبين والسائرين. وأما الصبر لله : فهو الصبر على مشاق الطاعات وترك المنهيات ونزول البليات ، يكون ذلك ابتغاء مرضاة الله ، لا لطلب أجر ولا نيل حظ. وهو صبر المخلصين. وأما الصبر مع الله : فهو الصبر على حضور القلب مع الله ، على سبيل الدوام ؛ مراقبة أو مشاهدة. فالأول : صبر المحبين ، والثاني : صبر المحبوبين.
وأما الصبر بالله : فهو الصبر على ما ينزل به من المقادير ، لكنه بالله لا بنفسه ، وهو صبر أهل الفناء من العارفين المجذوبين السالكين. وأما الصبر على الله : فهو الصبر على كتمان أسرار الربوبية عن غير أهلها ، أو الصبر على دوام شهود الله. وأما الصبر عن الله : فهو الصبر على الوقوف بالباب عند جفاء الأحباب ، فإذا كان العبد فى مقام القرب واجدا لحلاوة الأنس ، مشاهدا لأسرار المعاني ، ثم فقد ذلك من قلبه ، وأحس بالبعد والطرد ـ والعياذ بالله ـ فليصبر ، وليلزم الباب حتى يمن الكريم الوهاب ، ولا يتزلزل ، ولا يتضعضع ، ولا يبرح عن مكانه ، مبتهلا ، داعيا إلى الله ، راجيا كرم مولاه ، فإذا استعمل هذا فقد استعمل الصبر ؛ قياما بأدب العبودية. وهو أشد الصبر وأصعبه ، لا يطيقه إلا العارفون المتمكنون ، الذين كملت عبوديتهم ، فكانوا عبيدا لله فى جميع الحالات ، قرّبهم أو أبعدهم.
روى أن رجلا دخل على الشبلي رضي الله عنه ، فقال : أي صبر أشد على الصابر؟ فقال له الشبلي : الصبر فى الله ، قال :
__________________
(١) من الآية ١٨ من سورة الزمر.