لا ، قال : الصبر لله ، قال : لا ، قال : الصبر مع الله ، قال : لا ، فقال له : وأي شىء هو؟ فقال : الصبر عن الله. فصاح الشبلي صيحة عظيمة ، كادت تتلف فيها روحه. ه. لأن الحبيب لا يصبر عن حبيبه. لكن إذا جفا الحبيب لا يمكن إلا الصبر والوقوف بالباب ، كما قال الشاعر :
إن شكوت الهوى ، فما أنت منّا |
|
احمل الصّد والجفا ، يا معنا |
وقال رجل لأبى محمد الحريري رضي الله عنه : كنت على بساط الأنس ، وفتح على طريق البسط ، فزللت زلة ، فحجبت عن مقامى ، فكيف السبيل إليه؟ دلنى على الوصول إلى ما كنت عليه. فبكى أبو محمد وقال : يا أخى ، الكل فى قهر هذه الخطة ، لكنى أنشدك أبياتا لبعضهم ، فأنشأ يقول :
قف بالديار ؛ فهذه آثارهم |
|
تبكى الأحبة ؛ حسرة وتشوقا |
كم قد وقفت بربعها مستخبرا |
|
عن أهله ، أو سائلا ، أو مشفقا |
فأجابنى داعى الهوى فى رسمها |
|
فارقت من تهوى ؛ فعز الملتقى |
ومن هذا المعنى قضية الرجل الذي بقي فى الحرم أربعين سنة يقول : لبيك. فيقول له الهاتف : لا لبيك ولا سعديك ، وحجك مردود عليك. فقيل له فى ذلك ، فقال : هذه بابه ، وهل ثمّ باب أخرى أقصده منها؟ فقبله الحق تعالى ، ولبى دعوته. وكذلك قضية الرجل الذي قيل له ، من قبل الوحى : إنك من أهل النار ؛ فزاد فى العبادة والاجتهاد. فهذا كله يصدق عليه الصبر عن الله. لكن لا يفهم كماله إلا من كملت معرفته ، وتحقق بمقام الفناء ، فحينئذ قد يسهل عليه أمره ؛ لكمال عبوديته ، كما قال القائل :
وكنت قديما أطلب الوصل منهم |
|
فلمّا أتانى العلم وارتفع الجهل |
تيقنت أنّ العبد لا طلب له |
|
فإن قربوا : فضل ، وإن بعدوا : عدل |
وإن أظهروا لم يظهروا غير وصفهم |
|
وإن ستروا فالستر من أجلهم يحلو |
وأما من لم تكمل معرفته ، فقد ينكره ويذمه ، كالعباد والزهاد والعشاق ، فإنهم لا يطيقونه ، فإما أن يختل عقلهم ، أو يرجعون إلى الانهماك فى البطالة. والله تعالى أعلم. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.