قلت : ولذلك أكرمه الله تعالى بالرؤية ، التي منع منها نبيه موسى عليهالسلام ، حيث وقع منه الطلب «ربما دلهم الأدب على ترك الطلب» ، وقال الورتجبي : أسرى به عن رؤية فعله وآياته ، إلى رؤية صفاته ، ومن رؤية صفاته إلى رؤية ذاته ، وأشهده مشاهد جماله ، فرأى الحق بالحق ، وصار هنالك موصوفا بوصف الحق ، فكان صورته روحه ، وروحه عقله ، وعقله قلبه ، وقلبه سره ، فرأى الحق بجميع وجوده ؛ لأن وجوده فان بجميعه ، فصار عينا من عيون الحق ، فرأى الحق بجميع العيون ، وسمع خطابه بجميع الأسماع ، وعرف الحق بجميع القلوب. ه.
وقال ، فى قوله تعالى : (إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) : سبب بداية المعراج بالذهاب إلى المسجد الأقصى ، لأن هناك الآية الكبرى ؛ من بركة أنوار تجليه لأرواح الأنبياء وأشباحهم ، وهناك بقربه طور سيناء ، وطور زيتا ، والمصيصة ، ومقام إبراهيم وموسى وعيسى ، وفى تلك الجبال مواضع كشوف الحق ، ولذلك قال : (بارَكْنا حَوْلَهُ) ، انظر تمامه.
ولمّا كان لسيدنا موسى عليهالسلام مزيد كلام ومراجعة مع نبينا ـ عليه الصلاة والسلام ـ فى قضية الإسراء ، ذكره بإثره ، فقال :
(وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (٢) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (٣))
قلت : (ذُرِّيَّةَ) : منادى ، أي : يا ذرية من حملنا مع نوح ، والمراد : بنى إسرائيل. وفى ندائهم بذلك : تلطف وتذكير بالنعم ، وقيل : مفعول أول بتتخذوا ، أي : لا تتخذوا ذرية من حملنا مع نوح من دونى وكيلا ، فتكون كقوله : (وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً) (١).
يقول الحق جل جلاله : (وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) التوراة (وَجَعَلْناهُ) أي : التوراة (هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) ، وقلنا : (أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً) تفوضون إليه أموركم ، وتطيعونه فيما يأمركم. بل فوضوا أموركم إلى الله ، واقصدوا بطاعتكم وجه الله ، يا (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ) ، فاذكروا نعمة الإنجاء من الغرق ، وحمل أسلافكم فى سفينة نوح ، (إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً) ؛ يحمد الله ويشكره فى جميع حالاته. وفيه إيماء بأن إنجاءه ومن معه كان ببركة شكره ، وحث للذرية على الاقتداء به. والله تعالى أعلم.
الإشارة : المقصود من إرسال الرسل وإنزال الكتب هو ، إفراد الوجهة إلى الحق ، ورفع الهمة عن الخلق ، حتى لا يبقى الركون إلا إليه ، ولا الاعتماد إلا عليه ، وهو مقتضى التوحيد. قال تعالى : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) (٢). وبالله التوفيق.
__________________
(١) من الآية ٨٠ من سورة آل عمران.
(٢) من الآية ٩ من سورة المزمل.