أي : من طائفة نازلة من القرآن ، تذكر ذلك الحساب ، وتنبههم عن الغفلة عنه ، كائن أو نازل (مِنْ رَبِّهِمْ) ، أو ذاكر ومذكر من ناحية ربهم. وفى إضافته إليه سبحانه دلالة على شرفه ، وكمال شناعة ما فعلوه من الإعراض عنه ، وفى التعبير بعنوان الربوبية تشنيع لكمال عتوهم ، ومن صفة ذلك الذكر (مُحْدَثٍ) تنزيله بحسب اقتضاء الحكمة ، بمعنى أنه نزل شيئا فشيئا ، أو قريب عهد بالنزول ، فمعانى القرآن قديمة ، وإظهاره بهذه الحروف والأصوات حادث. وقال ابن راهويه : قديم من رب العزة ، محدث إلى أهل الأرض.
فما ينزل عليهم شىء من القرآن يذكرهم ويعظهم (إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) ؛ لا يتعظون به ، ولا يتدبرون فى معانيه ، (لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) ؛ ساهية ، معرضة عن التفكر والتدبر فى معانيه. وتقدير الآية : ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث ، فى حال من الأحوال ، إلا حال استماعهم إياه كانوا لاعبين مستهزءين به ، لاهين عنه ، حال كون قلوبهم لاهية عنه ؛ لتناهى غفلتهم وفرط إعراضهم عن النظر والتفكر فى عواقب الأمور. والله تعالى أعلم.
الإشارة : حمل الآية على العموم هو الظاهر عند الصوفية. وقد ورد عن رجل من الصحابة أنه كان يبنى ، فلقى بعض الصحابة فقال : ماذا نزل اليوم من القرآن؟ فقال له : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ) ، فنفض التراب ، وقال : والله لا بنيت. ه. أي : اقترب للناس حسابهم على النقير والقطمير ، وهم فى غفله عن التأهب والاستعداد ، معرضون عن اتخاذ الزاد ، ما يأتيهم من ذكر من ربهم ، يعظهم ويوقظهم ، إلا استمعوه بآذانهم ، وهم يلعبون ساهون عنه بقلوبهم ؛ لحشوها بالوساوس الشيطانية والعلائق النفسانية. لاهية قلوبهم عن التفكر والاعتبار والتدبر والاستبصار.
قال القشيري : ويقال : الغفلة على قسمين ؛ غافل عن حسابه ؛ لاستغراقه فى دنياه ، وغافل عن حسابه ؛ لاستهلاكه فى مولاه ، فالغفلة الأولى سمة الهجر ، والثانية صفة الوصل ، فالأولون لا يستفيقون من غفلتهم إلا فى عسكر الموتى ، وهؤلاء لا يرجعون عن غيبتهم أبد الأبد ؛ لفنائهم فى وجود الحق. ه. قلت : القسمة ثلاثية : قوم غفلوا عن حسابهم ؛ لاشتغالهم بحظوظهم وهواهم ، وهم : الغافلون الجاهلون ، وقوم ذكروا حسابهم ، وجعلوه نصب أعينهم ، وتأهبوا له ، وهم : الصالحون والعباد والزهاد ، وقوم غفلوا عنه ، وغابوا عنه ؛ لاستغراقهم فى شهود مولاهم ، وهم : العارفون المقربون. جعلنا الله منهم بمنّه وكرمه.
ثم ذكر المنهمكين فى الغفلة ، فقال :
(... وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ (٣) قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٤) بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (٥) مَا آمَنَتْ قَبْلَهُم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (٦))