قلت : (الَّذِينَ ظَلَمُوا) : بدل من الواو ، منبئ عن كونهم موصوفين بالظلم فيما أسروا به. وقال الكلبي : فيه تقديم وتأخير ، أراد الذين ظلموا أسروا النجوى. فيكون (الَّذِينَ) : مبتداء و (أَسَرُّوا) : خبر مقدم.
وقال قطرب : على لغة بعض العرب ، يقولون : أكلونى البراغيث ، وهى بلغة بلحارث وغيرهم. وقال الفراء : بدل من الناس ، أي : اقترب للناس وهم الذين ظلموا. و (هَلْ هذا ..) إلخ : بدل من النجوى ، أو مفعول بقول مضمر ، كأنه قيل : ماذا قالوا فى نجواهم؟ فقيل : قالوا : هل هذا .. إلخ و (أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) : حال من واو «تأتون» ؛ مقررة للإنكار ، مؤكدة للاستبعاد. و (مِنْ قَرْيَةٍ) : فاعل آمنت ، و (مِنْ) : صلة للعموم. و (أَهْلَكْناها) : صفة لقرية.
يقول الحق جل جلاله : (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى) : أخفوا تناجيهم بحيث لم يشعر أحد بما قالوا ، وهم (الَّذِينَ ظَلَمُوا) بالكفر والطغيان ، قائلين فى تلك النجوى الشنيعة : (هَلْ هذا) أي : ما هذا الرجل الذي يزعم أنه رسول (إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) أي : من جنسكم ، وما أتى به سحر ، (أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) أي : تعلمون ذلك فتأتونه ، وتحضرونه على وجه الإذعان والقبول ، وأنتم تعاينون أنه سحر؟. قالوا ذلك ، بناء على ما ارتكز فى اعتقادهم الزائغ ، أن الرسول لا يكون إلا ملكا ، وأنّ كل ما يظهر على يد البشر من الخوارق هو من قبيل السحر ، وغاب عنهم أن إرسال البشر إلى البشر هو الذي تقتضيه الحكمة التشريعية. قاتلهم الله أنى يؤفكون. وإذا أسروا ذلك ولم يعلنوه ؛ لأنه كان على طريق توثيق العهد ؛ خفية ، وتمهيدا لمقدمات المكر والكيد فى هدم أمر النبوة ، وإطفاء نور الدين. (وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ).
ثم فضح الله سرهم ونجواهم بقوله : (قالَ) (١) (رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي : قل يا محمد : ربى يعلم القول ، سرا كان أو جهرا ، سواء كان فى السماء أو الأرض ، فلا يخفى عليه ما تناجيتم به ، فيفضحكم به ويجازيكم عليه. وقرأ أكثر أهل الكوفة : (قالَ) ؛ على الخبر ، وهو حكاية من جهته تعالى لما قاله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بعد ما أوحى إليه أحوالهم وأقوالهم ؛ بيانا لظهور أمرهم وانكشاف سرهم ، وإيثار القول المشتمل على السر والجهر ؛ للإيذان بأن علمه تعالى بالسر والجهر على وتيرة واحدة ، لا تفاوت بينهما بالجلاء والخفاء ، كما فى علوم الخلق.
(وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي : المبالغ فى العلم بالمسموعات والمعلومات ، التي من جملة ما أسروه من النجوى ، فيجازيهم بأقوالهم وأفعالهم. (بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ) ، هو إضراب من جهته تعالى ، وانتقال من حكاية قولهم السابق إلى حكاية قول آخر مضطرب فى مضارب البطلان ، أي : لم يقتصروا على أن يقولوا فى حقه ـ عليه الصلاة والسلام ـ : هل هذا إلا بشر ، وفى حق ما ظهر على يديه من القرآن الكريم : إنه السحر ، بل قالوا : هو تخاليط
__________________
(١) قرأ حمزة والكسائي وحفص : «قال ربى». وقرأ الباقون : «قل» على الأمر. انظر الإتحاف (٢ / ٢٦١).