يحصل من الفعل ، فتارة يكون مقصودا منه ، كالخلاصة ، وتارة غير مقصود ، كالقلامة والكناسة ، والسلالة من قبيل الأول ؛ فإنها مقصودة بالسّل ، وقيل : إنما سمى التراب الذي خلق منه آدم سلالة ، لأنه سلّ من كل تربة. وقوله : (مِنْ طِينٍ) ، بيان ، متعلقة بمحذوف ، صفة للسلالة ، أي : خلقناه من سلالة كائنة من طين.
(ثُمَّ جَعَلْناهُ) أي : الجنس ، باعتبار أفراده المتغايرة لآدم عليهالسلام ، وجعلنا نسله ، على حذف مضاف ، إن أريد بالإنسان آدم ، فيكون كقوله تعالى : (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) (١) أي : جعلنا نسله (نُطْفَةً) : ماء قليلا (فِي قَرارٍ مَكِينٍ) أي : فى مستقر ـ وهو الرحم ـ (مَكِينٍ) : حصين ، أو متمكن فيه ، وصف الرحم بصفة ما استقر فيه ، مثل طريق سائر ، أي : مسير فيه.
(ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً) أي : دما جامدا ، بأن جعلنا النطفة البيضاء علقة حمراء ، (فخلقنا العلقة مضغة) أي : قطعة لحم لا استبانة ولا تمايز فيها ، (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ) أي : غالبها ومعظمها ، أو كلها (عِظاماً) ، بأن صلبناها ، وجعلناها عمودا على هيئة وأوضاع مخصوصة ، تقتضيها الحكمة ، (فَكَسَوْنَا الْعِظامَ) المعهودة (لَحْماً) بأن أنبتنا عليها اللحم ، فصار لها كاللباس ، أو كسونا كل عظم من تلك العظام ما يليق به من اللحم ، على مقدار لائق به ، وهيئة مناسبة. وقرىء بالإفراد فيهما ، اكتفاء بالجنس ، وبتوحيد الأول فقط ، وبتوحيد الثاني فحسب. (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) أي : خلقا مباينا للخلق الأول ، حيث جعله حيوانا ، وكان جمادا ، وناطقا وسميعا وبصيرا ، وكان بضد هذه الصفات ، ولذلك قال الفقهاء : من غصب بيضة فأفرخت عنده ضمّن البيضة ، ولم يردّ الفرخ ؛ لأنه خلق آخر سوى البيضة.
(فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) أي : فتعالى أمره فى قدرته الباهرة ، وعلمه الشامل. والالتفات إلى الاسم الجليل ؛ لتربية المهابة ، وإدخال الروعة ، والإشعار بأنّ ما ذكر من الأفاعيل العجيبة من أحكام الألوهية ، وللإيذان بأنّ من حق كل من سمع ما فصّل من آثار قدرته تعالى أو لا حظه ، أن يسارع إلى التكلم به ، إجلالا وإعظاما لشؤونه تعالى ، وقوله : (أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) : بدل من اسم الجلالة ، أو نعت ، على أنّ الإضافة محضة ؛ ليطابقه فى التعريف ، أو خبر ، أي : هو أحسن الخالقين خلقا ، أي : أحسن المقدرين تقديرا ، فحذف التمييز ؛ لدلالة الخالقين عليه.
قيل : إنّ عبد الله بن أبى سرح كان يكتب الوحى للنبى صلىاللهعليهوسلم ، فلمّا انتهى ـ عليه الصلاة والسّلام ـ إلى قوله : (خَلْقاً آخَرَ) ، سارع عبد الله إلى النطق بذلك ، فنطق بذلك ، قبل إملائه ، فقال له رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «اكتب ، هكذا
__________________
(١) الآيتان ٧ ـ ٨ من سورة السجدة.