قال فى الحاشية : لمّا ذكر تعالى غفلة الكفار ووعيدهم ، عقّب ذلك بوصف المؤمنين بضد ذلك ويقينهم بالرّجعى ، وإشفاقهم من جلال الحق وقهره. ه.
يقول الحق جل جلاله : (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) أي : من عذابه خائفون حذرون ، (وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ) المنصوبة والمنزّلة ، (يؤمنون) بتصديق مدلولها ، وبكتب الله كلها ، لا يفرقون بين كتبه ، كالذين تقطعوا أمرهم بينهم ـ وهم أهل الكتاب وغيرهم ، (وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ) شركا جليا ولا خفيا ، بخلاف مشركى العرب والعجم.
(وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا) أي : يعطون ما أعطوا من الزكوات والصدقات. وقرئ : (يأتون ما أتوا) بالقصر ، أي : يفعلون من الطاعات ، (وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) : خائفة ألّا تقبل منهم ؛ لتقصيرهم ؛ بأن لا يقع على الوجه اللائق ، فيؤخذوا به ويحرموا ثوابه ؛ لأنهم (إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ) فيعاتبهم ، أو من مرجعهم إليه ، وهو يعلم ما يحيق عليهم ، والموصولات الأربعة عبارة عن طائفة واحدة متصفة بما ذكر ، فى حيّز صلاتها من الأوصاف الأربعة ، لا عن طوائف ، كل واحدة منها متصفة بواحد من الأوصاف المذكورة ، كأنه قيل : إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون ، وبآيات ربهم يؤمنون ... إلخ.
وإنما كرر الموصول ؛ إيذانا باستقلال كل واحد من تلك الصفات بفضيلة باهرة على حيالها ، وتنزيلا لاستقلالها منزلة استقلال الموصوف بها ، وخبر «إنّ» : (أُولئِكَ يُسارِعُونَ) ، أشار إليهم بالجمع باعتبار اتصافهم بتلك النعوت ، مع أنّ الموصول واقع على الجمع.
ومعنى البعد ؛ للإشعار ببعد رتبتهم فى الفضل ، أي : أولئك المنعوتون بتلك النعوت الجليلة يسرعون (فِي الْخَيْراتِ) أي : يرغبون فى الطاعات أشد الرغبة ، فيبادرون إليها. أو يسارعون فى نيل الخيرات العاجلة والآجلة الموعودة على الأعمال الصالحات ؛ كما فى قوله ، تعالى : (فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ) (١) ، وقوله : (وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) (٢) ، فقد أثبت لهم ما نفى عن أضدادهم ، غير أنه غيّر الأسلوب ، حيث لم يقل : أولئك نسارع لهم فى الخيرات ؛ بل أسند المسارعة إليهم ؛ إيماءا إلى كمال استحقاقهم نيل الخيرات لمحاسن الأعمال. وإيثار كلمة «فى» ، عن كلمة «إلى» ؛ إيذانا بأنهم متقلّبون فى فنون الخيرات ، لا أنهم خارجون عنها متوجهون إليها ، كما فى قوله تعالى : (سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) الآية (٣).
__________________
(١) من الآية ١٤٨ من سورة آل عمران.
(٢) الآية ١٢٢ من سورة النحل.
(٣) الآية ١٣٣ من سورة آل عمران.