(وَهُمْ لَها) أي : لأجل نيل تلك الخيرات ، (سابِقُونَ) الناس إلى الطاعات ، أو : وهم إياها سابقون ، واللام زائدة ؛ لتقوية العامل ، كقوله : (هم لها عاملون) أي : ينالونها قبل الآخرة ، فتعجل لهم فى الدنيا ، وعن ابن عباس : (هم لها سابقون) أي : سبقت لهم من الله السعادة ، فلذلك سارعوا فى الخيرات. ه. فهو إشارة إلى تيسير كلّ لما خلق له ، وأنه يسّرهم القدر لما وصفهم به من الخير ، كما أن الكفار أمدوا بما يدعوا للغفلة والإعجاب ، مما هو استدراج ومكر من حيث لا يشعرون.
قال تعالى : (وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) أي : طاقتها ، فهو تحريض على تحصيل ما وصف به السابقون من فعل الطاعات المؤدى إلى نيل الخيرات ؛ ببيان سهولته ، وأنه غير خارج عن حد الوسع والطاقة ، أي : عادتنا جارية بأن لا نكلف نفسا من النفوس إلا ما فى طاقتها ، فإن لم يبلغوا فى فعل الطاعة مراتب السابقين ، فلا عليهم ، بعد أن يبذلوا طاقتهم ويستفرغوا وسعهم.
(وَلَدَيْنا كِتابٌ) أي : صحائف الأعمال التي يرونها عند الحساب ، حسبما يعرب عنه قوله : (يَنْطِقُ بِالْحَقِ) ، كقوله : (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١) أي : عندنا كتاب أثبت فيه أعمال كل أحد على ما هو عليه ، أو أعمال السابقين والمقتصدين جميعا ، وقوله : (بالحق) : يتعلق بينطق ، أي : يظهر الحق المطابق للواقع على ما هو عليه ، أو يظهره للسامع ، فيظهر هناك جلائل أعمالهم ودقائقها ، ويرتب عليها أجزيتها ، إن خيرا فخير ، وإن شرّا فشر ، وقيل : المراد بالكتاب : اللوح المحفوظ ، وهو مناسب لتفسير ابن عباس بسبق السعادة ، وقوله : (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) ، بيان لفضله تعالى وعدله فى الجزاء ، إثر بيان لطفه فى التكليف وكتب الأعمال ، أي : لا يظلمون فى الجزاء ؛ بنقص الثواب أو بزيادة عذاب ، بل يجزون بقدر أعمالهم التي كلّفوها ، ونطقت بها صحائف أعمالهم ، أو : لا يظلمون بتكليف ما لا وسع فيه ، أو : لا ينقصون مما سبق لهم فى اللوح المحفوظ شيئا ، والله تعالى أعلم.
الإشارة : ذكر فى هذه الآية أربعة أوصاف من أوصاف المقربين ، أولها : الخوف والإشفاق من الطرد والإبعاد ، والثاني : الإيمان الذي لا يبقى معه شك ولا وهم ، بما تضمنته الآيات التنزيلية من الوعد والإيعاد ، والثالث : التوحيد الذي لا يبقى معه شرك جلى ولا خفى ، والرابع : السخاء والكرم ، مع رؤية التقصير فيما يعطى. فمن جمع هذه الخصال كان من السابقين فى الخيرات ، ويسارع لهم فى تعجيل الخيرات ، وكل ذلك بقدر ما يطيق العبد ، مع بذل المجهود فى فعل الخيرات.
قال فى الحاشية : والمسارعة إلى الخيرات إنما هو بقطع الشرور ، وأول الشرور : حب الدنيا ؛ لأنها مزرعة الشيطان ، فمن طلبها وعمرها فهو حراثه وعبده ، وشر من الشيطان من يعين الشيطان على عمارة داره ، وما ذلك إلا أنه لم يهتم بأمر معاده ومنقلبه ، لما جرى عليه فى السابقة من الحكم ، ولا كذلك من وصفه بالإشفاق من المؤمنين ؛ إجلالا لربهم ، ورجوعا لحكمه فيهم غيبا ، فلا يأمنون مكره بحال ، ولا يركنون إلى أعمال ، بل عمدتهم
__________________
(١) من الآية ٢٩ من سورة الجاثية.