النفوس ، ولو فعلوا ذلك لضلوا عن طريق العبودية ، وتركوا أوامر الله ، وأعرضوا عن طاعته ، ولزموا المخالفة ، ألا ترى الله يقول : (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَ).
ثم بيّن سبحانه أن حبيبه ـ عليه الصلاة والسلام ـ يدعوهم إلى تلك المشاهدة بقوله : (وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم) أي : مما أوضحه أنوار جماله وشاهدته ، وهى طريق معرفته فى قلوب الصّدّيقين للأرواح القدسية. وتلك الطريقة منتهاها المحبة ، وبدايتها الأسوة والمتابعة ؛ لقوله : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) (١). ه. قلت : المراد بالمحبة محبة الحق لعبده ؛ بدليل الآية التي ذكر. وقال ابن عطاء : إنك لتحملهم على مسالك الوصول ، وليس كل أحد يصلح لذلك السلوك ، ولا يوفق له إلا أهل الاستقامة ، وهم الذين استقاموا مع الله ولم يطلبوا معه سواه ، ولم يروا لأنفسهم درجة ولا مقاما. ه.
قوله تعالى : (وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) أي : لا يؤمنون بالحياة الآخرة ، وهى حياة النفوس بالمعرفة العيانية ، بعد موتها بالجهل والوقوف مع الحس والعوائد ، ممن لا يصدق بهذه الحياة ، وأنكر وجود من يوصل إليها عن طريق الحق الموصلة إليه ، لناكبون ، فهم فى الحيرة والتلف تائهون ، عائذا بالله من ذلك.
ثم ذكر انهماكهم فى الغفلة ؛ لسبق القضاء عليهم ، فقال :
(وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٥) وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (٧٦) حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٧))
يقول الحق جل جلاله : (وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ) ، كقحط وجدب ، (لَلَجُّوا) : لتمادوا (فِي طُغْيانِهِمْ) : إفراطهم فى الكفر والعتو والاستكبار وعداوة الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ والمؤمنين ، (يَعْمَهُونَ) : يترددون عامهين عن الهدى. قال ابن عباس : لما أسلم ثمامة بن أثال الحنفي ، ورجع إلى اليمامة ، منع الميرة عن أهل مكّة ، وأخذهم الله تعالى بالسنين حتّى أكلوا العلهز (٢) ، جاء أبو سفيان إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال له : أنشدك الله والرّحم ، ألست تزعم أنّك بعثت رحمة للعالمين؟ قال : بلى ، قال : قتلت الآباء بالسّيف ، والأبناء بالجوع ، فنزلت (٣). قال ابن جزى : وفيه نظر ؛ فإن الآية مكية باتفاق ، وإنما دعا النبي صلىاللهعليهوسلم على قريش بعد الهجرة ، حسبما ورد فى الحديث. ه.
__________________
(١) فالآية ٣١ من سورة آل عمران.
(٢) قال فى النهاية : هى شىء يتخذونه فى سنى المجاعة ، يخلطون الدم بأوبار الإبل ، ثم يشوونه بالنار ويأكلونه. انظر النهاية (٣ / ٢٩٣). والقاموس المحيط (٢ / ٩٠).
(٣) أخرجه البيهقي فى الدلائل (باب سرية نجد) ، والنسائي فى الكبرى (التفسير ، سورة المؤمنون) ، وابن جرير فى التفسير (١٨ / ٤٥).