قلت : والتحقيق : أن القحط نزل بهم مرتين ، أحدهما قبل الهجرة ، حين دعا عليهم ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بقوله : «اللهم أعنّى عليهم بسبع كسبع يوسف» ، فأخذتهم سنة حصدت كل شىء ، حتى أكلوا الميتة والعظام ، وكانوا يرون كهيئة الدخان من الجوع ، فجاء أبو سفيان فقال : يا محمد ، جئت تأمر بصلة الرحم ، وإن قومك قد هلكوا ، فادع الله يغيثنا ، فدعا لهم .. الحديث. وفيه نزل تعالى : (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) (١) ، الآية ، وقوله هنا : (وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ...) الآية. ومرة أخرى بالمدينة ؛ حين استغاثوا به عليهالسلام وهو يخطب ، ولعله هو الذي ذكره ابن عباس فى إسلام ثمامة ، ولعل قوله : «فنزلت الآية» سهو ؛ لأنها نزلت قبل الهجرة ، إلّا أن تكون الآية مدنية فى السورة المكية ، وقول ابن جزى : «دعا عليهم بعد الهجرة» ، التحقيق : أنه دعا عليهم قبل وبعد. والله أعلم.
والمعنى : لو رحمناهم ، وكشفنا ما بهم من القحط والهزال ؛ برحمتنا إياهم ، ووجدوا الخصب ، لا رتدوا إلى ما كانوا عليه من الكفر والاستكبار ، ولذهب عنهم هذا الخلق والتعلق بك ، وهذا كقوله تعالى فى الدخان : (إِنَّكُمْ عائِدُونَ) (٢) ، قيل : المراد بالضر : العذاب الأخروى ، فيكون كقوله : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) (٣).
(وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ) ، وهو ما أصابهم يوم بدر من القتل والأسر ، وهو قوله ـ تعالى ـ فى الدخان : (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى) (٤). (فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ) بذلك ، أي : لم يخضعوا ولم يتذللوا. و «استكانوا» : افتعل من السكون ، والألف زائدة ، أو استفعل من الكون ، أي : انتقل من كون إلى كون ، كاستحال ، إذا انتقل من حال إلى حال ؛ لأن الخاضع ينتقل من كون إلى كون. (وَما يَتَضَرَّعُونَ) أي : وليس من حالهم التضرع إليه تعالى ، وعبّر بالمضارع ، ليدل على الاستمرار ، أي : ليس شأنهم التضرع فى هذه الحالة وغيرها ، أو : فما استكانوا فيما مضى ، وما يتضرعون فيما ينزل بهم فى المستقبل ، والمعنى : تالله لقد أخذناهم بالعذاب ، وقتلناهم بالسيوف ، وما جرى عليهم يوم بدر من قتل صناديدهم ، فما وجدت ، بعد ذلك ، منهم استكانة ولا تضرع.
(حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ) ، وهو عذاب الآخرة ، (إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) : متحيرون آيسون من كل خير ، وهذا هو الصواب من حمل العذاب على عذاب الآخرة ، بدليل وصفه بالشدة والإياس. والله تعالى أعلم.
__________________
(١) الآية ١٠ من سورة الدخان.
(٢) من الآية ١٥ من سورة الدخان.
(٣) من الآية ٢٨ من سورة الأنعام.
(٤) من الآية ١٦ من سورة الدخان.