وقال الأخفش : اللام زائدة ، أي : هو الله ، وبعدمه قرأ أهل البصرة ، فيه وفيما بعده ، واتفقوا على إثباته فى الأول ، ليطابق السؤال ، فإن أجابوا بذلك (فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) أي : أتعلمون ذلك ، ولا تتقون عذابه فى كفركم وجحودكم قدرته على البعث؟
(قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) أي : التصرف التام فى كل شىء بقهره وسلطانه ، فالملكوت ، فى أصل اللغة ، مبالغة فى الملك ، زيدت الواو والتاء ؛ للمبالغة ، كالجبروت ؛ مبالغة فى الجبر ، وفى عرف الصوفية ، الملكوت : ما بطن من أسرار المعاني القائمة بالأوانى ، أو نقول : ما غاب فى عالم الشهادة من أسرار الذات ، فحس الأوانى ملك ، ومعانيها ملكوت ، والجبروت : ما خرج عن دائرة الأكوان من بحر الأسرار ، الفائض بأنوار الملكوت ، وهذه أسماء لمسمى واحد ، وهو بحر الوحدة.
ثم قال تعالى : (وَهُوَ يُجِيرُ) أي : يغيث ، يقال : أجرت فلانا على فلان : إذا أغثته منه ، يعنى : وهو يغيث من شاء ممن شاء ، (وَلا يُجارُ عَلَيْهِ) : ولا يغيث أحد عليه ، أي : لا يمنع أحد أحدا بالنصر عليه. (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) شيئا ما ، أو تعلمون ذلك ، فأجيبونى؟ (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) أي : لله ملكوت كل شىء ، وهو يجير ولا يجار عليه ، (قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) أي : فمن أين تخدعون وتصرفون عن الرشد ، وعن توحيد الله وطاعته؟ فإنّ من لا يكون مسحورا مختل العقل لا يكون كذلك ، قال تعالى : (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِ) الذي لا محيد عنه ؛ من التوحيد والوعد بالبعث ، (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) فيما قالوا من الشرك وإنكار البعث. وبالله التوفيق.
الإشارة : قل : لمن أرض النفوس ، وما فيها من الأهوية والحظوظ والعلائق؟ سيقولون : هى لله يتصرف فيها كيف يشاء ، فتارة يملّكها لعبده ، فتكون تحت قهره وسلطانه ، فيكون حرا من رق الأشياء ، وتارة يملّكه لها بعدله ، فيكون تحت قهرها وسلطانها ، تتصرف فيه كيف تشاء ، ويكون مملوكا لها ، ينخرط فى سلك من اتخذ إلهه هواه ، قل : من رب سماوات الأرواح وعرش الأسرار والأنوار ، وهو القلب الذي هو بيت الرب ، قل : سيقولون : لله ، يظهرها متى شاء ، ويوصلها إلى أصلها كيف شاء ، قل : من بيده ملكوت كل شىء ، فيتصرف فى النفوس والأرواح ؛ بالتقريب والتبعيد ، وهو يجير من الحظوظ والأهوية من يشاء ، ويسلطها على من يشاء ، ولا يجار عليه ، لا يمتنع من قهره أحد ، فأنّى تسحرون.
قال القشيري : أولا قال : (أفلا تذكرون) ، ثم قال بعده : (أفلا تتقون) ؛ قدّم التذكر على التقوى ؛ لأن بتذكيرهم يصلون إلى المعرفة (١) ، وبعد أن عرفوه ، علموا أنه يجب عليهم اتقاء مخالفته ، ثم بعد ذلك قال : (فأنى تسحرون)؟ أي : بعد وضوح الحجة ، أىّ شكّ بقي حتى تنسبوه إلى السّحر؟. ه.
__________________
(١) فى القشيري : المغفرة.