يقول الحق جل جلاله : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً) أي : عابثين ، أو للعبث من غير حكمة فى خلقكم وإظهاركم حتى أنكرتم البعث ، (وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) للحساب والجزاء ، بل خلقناكم للتكليف ، ثم للرجوع إلينا ، فنثيب المحسن ، ونعاقب المسيء. (فَتَعالَى اللهُ) أن يخلق شيئا عبثا ، وهو استعظام له تعالى ولشئونه التي يصرّف عليها عباده ؛ من البدء والإعادة ، والإثابة والعقاب ، بموجب الحكمة ، أي : ارتفع بذاته ، وتنزه عن مماثلة المخلوقين فى ذاته وصفاته وأفعاله ، وعن خلو أفعاله عن الحكم والمصالح والغايات الحميدة.
(الْمَلِكُ الْحَقُ) ؛ الذي يحق له الملك على الإطلاق ، إيجادا وإعداما ، وإحياء وإماتة ، عذابا وإثابة ، وكل ما سواه مملوك له ، مقهور تحت ملكوته ، (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) ، فإنّ كل ما عداه عبيده ، (رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) ، فكيف بما تحته من الموجودات ، كائنا ما كان ، ووصفه بالكرم : إمّا لأنه منه ينزل الوحى الذي منه القرآن الكريم ، والخير والبركة ، أو لنسبته إلى أكرم الأكرمين.
(وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) ، يعبده فردا أو اشتراكا ، من صفته (لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ) على صحة عبادته. وفيه تنبيه على أن التدين بما لا دليل عليه باطل ، فكيف بما شهدت بديهة العقول بخلافه؟ (فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) ، فهو مجاز له على قدر ما يستحقه ، (إِنَّهُ) أي : الأمر والشأن (لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) ؛ لا فوز لهم ولا نجاة.
بدئت السورة الكريمة بتقرير فلاح المؤمنين ، وختمت بنفي فلاح الكافرين ؛ تحريضا على الإيمان ، وعلى ما يوجب بقاءه وتنميته ، من التمسك بما جاء به التنزيل ، وبما جاء به النبي الجليل ، ليقع الفوز بالفلاح الجميل.
ثم علّمنا سؤال المغفرة والرحمة ؛ لأن شؤم المعاصي يؤدى إلى سوء الختام ، فقال : (وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) ، وفيه إيذان بأنهما من أهم الأمور الدينية ، حيث أمر به من قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، فكيف بمن عداه؟ نسأل الله ـ تعالى ـ المغفرة الشاملة ، والرحمة الكاملة ، لنا ولإخواننا ولجميع المسلمين .. آمين.
روى عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه مرّ بمصاب مبتلى ، فقرأ فى أذنه : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما ...) إلخ السورة ، فبرئ من حينه. فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : «ماذا قرأت فى أذنه؟» فأخبره ، فقال : «والذي نفسى بيده لو أن رجلا مؤمنا قرأها على جبل لزال» (١).
الإشارة : ما أظهر الله الكائنات إلا ليعرف بها ، ويظهر فيها أسرار ذاته وأنوار صفاته ، وفى الأثر القدسي : «كنت كنزا لم أعرف ، فأحببت أن أعرف ، فخلقت الخلق ، فتعرفت لهم ، فبى عرفونى». وفى إيجاد المخلوقات حكم بليغة وأسرار عجيبة ، لا يحصيها إلا من خلقها ودبّرها. فمن المخلوقات من خلقهم ليظهر فيهم أثر رحمته وكرمه وإحسانه ،
__________________
(١) أخرجه البغوي فى تفسيره (٥ / ٤٣٢) ، وأبو نعيم فى الحلية (١ / ٧) ، وابن السنى فى عمل اليوم والليلة (ص ٢٩٨) قال الذهبي فى ميزان الاعتدال (٢ / ١٧٥) قال العقيلي : حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، قال : .... وساق الحديث ، فقال أبى : هذا موضوع ، هذا حديث الكذابين.