قلت : والذي جاء فى الأحاديث الواردة فى أخبار الآخرة : أن أهل الجنة ، إذا قربوا منها وجدوا على بابها عينين ، فيغتسلون فى إحداهما ، فتنقلب أجسادهم على صورة آدم عليهالسلام ، ثم يشربون من الأخرى فتطهر قلوبهم من الغل والحسد ، وسائر الأمراض ، وهو الشراب الطهور. قال القشيري فى قوله تعالى : (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) (١) : يقال : يطهّرهم من محبة الأغيار ، ويقال : ويطهّرهم من الغلّ والغشّ والدعوى ... إلخ ما يأتى إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم ، وسترى وتعلم.
ثم قال تعالى : (إِخْواناً) ، أي : لما نزعنا ما فى صدورهم من الغل صاروا إخوانا متوددين ، لا تباغض بينهم ولا تحاسد ، (عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) ؛ يقابل بعضهم بعضا على الأسرة ، لا ينظر أحد فى فناء صاحبه. وقال شيخ شيوخنا سيدى عبد الرحمن الفاسى : المتجه أن المقابلة معنوية ، وهى عدم إضمار الغل والإعراض ، سواء اتفق ذلك حسا أم لا ، ومن أضمر لأخيه غلا فليس بمقابله ، ولو كان وجهه إلى وجهه ، بل ذلك أخلاق نفاق ، ولذلك شواهد بذمه لا بمدحه. ه. (لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ) أي : تعب ، (وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ) ، لأن تمام النعمة لا يكون إلا بالخلود والدوام فيها. أكرمنا الله بتمام نعمته ، ودوام النظر إلى وجهه. آمين.
الإشارة : لا ينقطع عن العبد تسلط الشيطان حتى يدخل مقام الشهود والعيان ، حين يكون عبدا خالصا لله ، حرا مما سواه ، وذلك حين ينخرط فى سلك القوم ، ويزول عنه لوث الحدوث والعدم ، فيفنى من لم يكن ، ويبقى من لم يزل ، وذلك بتحقيق مقام الفناء ، ثم الرجوع إلى مقام البقاء. قال الشيخ أبو المواهب رضي الله عنه : من رجع إلى البقاء أمن من الشقاء ؛ وذلك أن العبد حين يتصل بنور الله ، ويصير نورا من أنواره ، يحترق به الباطل ويدمغ ، فلا سبيل للأغيار عليه. ولذلك قال بعضهم : نحن قوم لا نعرف الشيطان ، فقال له القائل : فكيف ، وهو مذكور فى كتاب الله تعالى ، قال تعالى : (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) (٢)؟. فقال : نحن قوم اشتغلنا بمحبة الحبيب ، فكفانا عداوة العدو. وحين يتحقق العبد بهذا المقام ينخرط فى سلك قوله تعالى : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ. وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ ..) الآية ، وهذا لا ينال إلا بالخضوع لأهل النور ، حتى يوصلوه إلى نور النور ، فيصير قطعة من نور ، غريقا فى بحر النور. ومع هذا لا ينقطع عنه الخوف والرجاء ، لقوله تعالى :
(نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (٥٠))
__________________
(١) من الآية ٢١ من سورة الإنسان.
(٢) من الآية ٦ من سورة فاطر.