يقول الحق جل جلاله : (نَبِّئْ) : أخبر ، (عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) لمن آمن بي ، وصدق رسلى ، (وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) لمن كفر بي ، وجحد رسلى ، أو بعضهم. قال البيضاوي : هى فذلكة ما سبق من الوعد والوعيد ، وتقرير له ، وفى ذكر المغفرة دليل على أنه لم يرد بالمتقين متقى الذنوب بأسرها ، كبيرها وصغيرها ، وفى توصيف ذاته بالغفران والرحمة دون التعذيب ـ أي : لم يقل وأنا المعذب المؤلم ـ ترجيح الوعد. ه.
وذكر ابن عطية أن سبب نزولها : أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم جاء إلى جماعة من أصحابه ، عند باب بنى شيبة فى الحرم ، فوجدهم يضحكون ، فزجرهم ووعظهم ، ثم ولى ، فجاءه جبريل عن الله ، فقال : يا محمد أتقنّط عبادى؟ وتلى عليه الآية ، فرجع بها رسول الله صلىاللهعليهوسلم إليهم وأعلمهم (١). ه. ثم قال : ولو لم يكن هذا السبب لكان ما قبلها يقتضيها ؛ إذ تقدم ذكر ما فى النار وذكر ما فى الجنة ، فأكّد تعالى تنبيه الناس بهذه الآية. ه.
قيل : وهذه الآية أبلغ ما فى القرآن فى إثارة الخوف والرجاء ، من الآي التي لا تشبهها فى الإجمال ؛ لما فيها من التصريح ، ثم الرجاء فيها أغلب ؛ لأجل التقديم ، مع ذكره فى آية الرجاء ، لصفاته العلية وأسمائه الحسنى ، وذلك يؤذن بالتهمم به وترجيحه ، وهو مذهب الصوفية فى حال الحياة والممات.
الإشارة : الخوف والرجاء يتعاقبان على الإنسان ، فتارة يغلب عليه الخوف ، وتارة يغلب عليه الرجاء. هذا قبل الوصول ، وأما بعد الوصول فالغالب عليهم الاعتدال ، قال فى التنبيه : أما العارفون الموحدون فإنهم على بساط القرب والمشاهدة ، ناظرون إلى ربهم ، فانون عن أنفسهم ، فإذا وقعوا فى ذلة ، أو أصابتهم غفلة ، شهدوا تصريف الحق تعالى لهم ، وجريان قضائه عليهم. كما أنهم إذا صدرت منهم طاعة ، أو لاح منهم لائح من يقظة ، لم يشهدوا فى ذلك أنفسهم ، ولم يروا فيها حولهم ولا قوتهم ؛ لأن السابق إلى قلوبهم ذكر ربهم ، فأنفسهم مطمئنة تحت جريان أقداره ، وقلوبهم ساكنة بما لاح لهم من أنواره ، ولا فرق عندهم بين الحالين ؛ لأنهم غرقى فى بحار التوحيد ، قد استوى خوفهم ورجاؤهم ، فلا ينقص من خوفهم ما يجتنبونه من العصيان ، ولا يزيد فى رجائهم ما يأتون من الإحسان. ه. قلت : بل طرق الرجاء عندهم أرجح ، كما تقدم ؛ لأن الرجاء ناشئ عن غلبة المحبة ، وهى غالبة. والله تعالى أعلم.
__________________
(١) أخرجه بنحوه الطبري فى تفسيره (١٤ / ١٠٢) عن رجل من أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم ، وذكره الواحدي فى أسباب النزول (٢٨٣) بدون سند.