قال مجاهد : قال أناس من المنافقين : استأذنوا رسول الله ، فإن أذن لكم فاقعدوا ، وإن لم يأذن لكم فاقعدوا. وقال بعضهم : نزلت هذه الآية : (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا) فيما اعتذروا به إليك ، وهم المؤمنون ، (وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ) فيما اعتذروا به إليك وهم المنافقون. ثمّ أنزل الله بعد ذلك الرخصة للمؤمنين خاصّة دون المنافقين : (فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) قال في سورة النور : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٦٢) [النور : ٦٢] (١).
قوله : (وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ :) أي خروجهم ، لما يعلم منهم أنّهم عيون للمشركين على المؤمنين ، ولما يمشون بين المؤمنين بالنمائم والفساد. (فَثَبَّطَهُمْ :) أي عن الخروج لما يعلم منهم من الفساد (وَقِيلَ اقْعُدُوا
__________________
(١) يبدو لي ـ والله أعلم ـ أنّ الاستئذان الوارد في سورة التوبة ، والذي نفاه الله عن المؤمنين ، غير الاستئذان الوارد في سورة النور ، والذي أباحه الله لهم ، وأمر نبيّه عليهالسلام أن يأذن فيه لمن شاء منهم. فهو في سورة التوبة استئذان للتخلّف عن الجهاد ، وهذا ليس من شأن المؤمنين ولا من طبيعتهم ، بل هو من طبيعة المنافقين الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر. أمّا الاستئذان في سورة النور فإنّما هو للذهاب من مجلس رسول الله صلىاللهعليهوسلم ـ إذا كانوا معه على أمر جامع ـ لبعض شأنهم ، وهو من الآداب الحسنة العامّة التي وصف الله بها المؤمنين في عهد الرسول عليهالسلام ليتأدّب بها من جاء بعدهم. وذلك ممّا يدلّ على تقديرهم وحبّهم وتودّدهم للنبيّ عليهالسلام. ثمّ إنّهم بعد ذلك مجزيّون باستغفار الرسول لهم ، فإنّ من استغفر لهم الرسول عليهالسلام من المؤمنين جديرون أن يغفر لهم بإذن الله.
ومن جهة أخرى ، لا تكون سورة التوبة نزلت قبل سورة النور ، فإنّ آية الاستئذان في سورة التوبة من أواخر القرآن نزولا ، فقد نزلت في السنة التاسعة للهجرة أيّام غزوة تبوك ، وسورة النور نزلت قبل ذلك بسنتين أو ثلاث. اللهمّ إلّا أن تكون آية الاستئذان والإذن في سورة النور نزلت منفردة بعد غزوة تبوك. وهذا الاحتمال مستبعد. والله أعلم. لهذا كلّه ، لا نرى وجها لما قاله بعضهم ، وهو قتادة ، من «أنّ الله أنزل بعد ذلك الرخصة للمؤمنين دون المنافقين». انظر في الموضوع كتب التفسير والسيرة ، وانظر خاصّة الكشّاف للزمخشري ، ج ٣ ص ٢٥٩ في معنى الأمر الجامع ، وما هو الدرس الذي يجب على المؤمن أن يعيه عند تدبّره لهذه الآية.