قوله : (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ) : وهذا في غزوة تبوك (وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ) : يعني من خرج منهم (لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ) : أي عطش (وَلا نَصَبٌ) : أي في أبدانهم (وَلا مَخْمَصَةٌ) : أي جوع تخمص له بطونهم (فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١٢٠) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٢١). ذكروا أنّ المجاهد إذا خرج من بيته جعل ذنوبه جسرا على باب بيته ، فإذا خرج قطعها ، فيكون من ذنوبه كيوم ولدته أمّه ؛ فما من خطوة يخطوها إلّا كتب له بها سبعمائة حسنة ، ولا بطشة يبطشها ، ولا عمل يعمله إلّا كتب له سبعمائة حسنة ، فإن مات أو قتل كان على الأرض حراما حتّى يرى مقعده في الجنّة ، ويغفر له كلّ ذنب هو له.
__________________
ـ المعيّة في اتّباع المهاجرين في هجرتهم إلى المدينة ، فإنّ صفة الصدق وردت في الآية بصيغة العموم ، فيجب أن تحمل على أوسع معانيها. وكلام الله موجّه إلى كلّ المؤمنين في كلّ زمان ومكان. ومن أولى معاني الصدق في الآية الصدق في الحديث والتنزّه عن الكذب في كلّ شيء. وذلك ما أدركه كعب بن مالك حين قال بعد ما روى قصّة المخلّفين الثلاثة ، وهو أحدهم : «قلت يا رسول الله ، إنّ الله إنّما أنجاني بالصدق ، وإنّ من توبتي ألّا أحدّث إلّا صدقا ما بقيت». وقال : «فو الله ما علمت أحدا من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله عليهالسلام أحسن ممّا ابتلاني ؛ والله ما تعمّدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى يومي هذا. وإنّي أرجو أن يحفظني الله فيما بقي». وقال : «والله ما أنعم الله عليّ من نعمة قطّ بعد أن هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ألا أكون كذبته ، فأهلك كما هلك الذين كذبوه».
وهو ما فهمه أيضا ابن مسعود رضي الله عنه فقال : «إنّ الكذب لا يحلّ منه جدّ ولا هزل وقرأ : (اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ). وانظر : الطبري في تفسيره ، ج ١٤ ص ٥٥٩ ـ ٥٦٠ ، وفيه أنّ قراءة ابن مسعود كانت : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) ، وزاد فيه : «فهل ترون في الكذب رخصة».
وهكذا من تأمّل في قصّة المخلّفين الثلاثة ، وتدبّر ما كان من أمر كعب بن مالك خاصّة ، وحديثه للرسول صلىاللهعليهوسلم بعد نزول توبته ، أدرك أنّ معنى الصدق هنا ينصرف أوّلا إلى الصدق في الحديث. ثمّ ، بعد ذلك ، الصدق في النية والعمل ، وأنّ الخطاب موجّه إلى كافّة المؤمنين في كلّ زمان ومكان بدون تخصيص.