لعدم تمكن الطبيعة من ذلك ، فبقيت سائر الجهات فيؤذى بها من الجهات الأربع ويعذب كما تراه يعاب بها في الدنيا ويخزى من هذه الجهات أيضا إما بأن يواجه بها جهرا فيفضح أو يسارّ بها في جنبه أو يغتاب بها من وراء ظهره.
(كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ) أي : كانوا أشقياء لم يبق في استعدادهم خير فيريده الله منهم فلذلك كره انبعاثهم ، أي : كانوا من الفريق الثاني من الأشقياء المردودين الذين مرّ ذكرهم غير مرة (وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ) كانوا يؤذونه ويغتابونه بسلامة القلب وسرعة القبول والتصديق لما يسمع ، فصدّقهم في ذلك وسلم وقال : هو كذلك ، ولكن بالنسبة إلى الخير فإنّ النفس الأبية والغليظة الجافية والكرة القاسية التي تتصلب في الأمور ولا تتأثر غير مستعدة للكمال ، إذ الكمال الإنساني لا يكون إلا بالقبول والتأثر والانفعال. فكلما كانت النفس ألين عريكة وأسلم قلبا وأسهل قبولا كانت أقل للكمال وأشدّ استعدادا له ، وليس هذا اللين هو من باب الضعف والبلاهة الذي يقتضي الانفعال من كل ما يسمع حتى المحال والتأثر من كل ما يرد عليه ويراه حتى الكذب والشرور والضلال بل هو من باب اللطافة وسرعة القبول لما يناسبه من الخير والصدق ، فلذلك قال : (قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ) إذ صفاء الاستعداد ولطف النفس يوجب قبول ما يناسبه من باب الخيرات لا ما ينافيه من باب الشرور ، فإنّ الاستعداد الخيري لا يقبل الشر ولا يتأثر به ولا ينطبع فيه لمنافاته إياه وبعده عنه (لَكُمْ) أي : يسمع ما ينفعكم وما فيه صلاحكم دون غيره (يُؤْمِنُ بِاللهِ) هو بيان لينه وقابليته لأن الإيمان لا يكون إلا مع سلامة القلب ولطافة النفس ولينها (وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) يصدّق قولهم في الخيرات ويسمع كلامهم فيها ويقبله (وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) يعطف عليهم ويرق لهم فينجيهم من العذاب بالتزكية والتعليم ، ويصلح أمر معاشهم ومعادهم بالبرّ والصلة وتعليم الأخلاق من الحلم والشفقة ، والأمر بالمعروف باتباعهم إياه فيها ، ووضع الشرائع الموجبة لنظام أمرهم في الدارين ، والتحريض على أبواب البرّ بالقول والفعل إلى غير ذلك.
[٧٢ ـ ٩٩] (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٧٢) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٣) يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٧٤) وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا