وكلما فاض عليه خير باستحقاقه له لوجود تصفية وتزكية زاد استعداده بانضمام هذا الخير إليه ، فصار أقوى وأقبل من الأول فيكون المبدأ تعالى أسرع إجابة له وأكثر إفاضة عليه وعلى هذا يزداد الاستعداد فيزداد الفيض حتى يبلغ مداه وهو معنى تضاعف الحسنات. ومعنى قوله : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) (١). وأما الشرور فليست إلا حجب الاستعداد وموانع القبول وحواجز الفيض ، فلما حصلت ما وقع بسببها إلا عدم القبول للخيرات فمنعت فيضانها وبقي الاستعداد في حجاب ما حصل منها ليس إلا ، وإن اقتضى بحسب المناسبة فيضان الشرّ فليس في فيض المبدأ ما يجانسه فلا يفيض عليه شيء من جنسه ، وهذا معنى قوله تعالى : (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) (٢) اللهم إلا إذا أفرط وتجاوز حدّ الرحمة وأزال الاستعداد بالكلية فناسب الشيطنة واستمدّ من عالمها ، كما قال تعالى : (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (٢٢١) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٢٢٢)) (٣) ، (لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ) لقطع مدى استعدادهم فانقطع مدد الحياة الحقيقية عنهم ومدد الخير عن استعدادهم بالكلية وأزيل إمكان التصفية منه لاقتضائه الشرّ ، فلم يصل إليهم بعد ذلك خير صوري ولا معنوي ولكن يمهلهم ما بقي فيهم أدنى مسكة من استعدادهم وإمكان قبول لأدنى خير.
(فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) من جملتهم ، أي : لا يرفعون رأسا من انهماكهم في الشرور ولا يتوقعون نورا من أنوارنا ولا يتنبهون قط من غفلتهم بالرجوع إلينا وطلب رحمتنا (فِي طُغْيانِهِمْ) وتماديهم في الشرور يتحيرون وينقطع مدد الخيرات الصورية التي يسألها استعدادهم بلسان حاله عنهم حتى يزول بانغماسهم وانهماكهم في الطبيعيات نور استعدادهم بالكلية لحصول الرين ويحق الطمس ، فنكسوا على رؤوسهم إلى أسفل سافلين.
[١٩ ـ ٢٠] (وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٩) وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٢٠))
(وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً) على الفطرة التي فطر الله الناس عليها ، متوجهين إلى الوحدة ، متنوّرين بنور الهداية الأصلية (فَاخْتَلَفُوا) بمقتضيات النشأة واختلاف الأمزجة والأهوية والعادات والمخالطات. (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) أي : قضاء سبق في الأزل بتعيين الآجال والأرزاق وتمادي كل واحد من الشقي والسعيد إلى حيث قدر له فيما يزاوله
__________________
(١) سورة القصص ، الآية : ٨٤.
(٢) سورة الأنعام ، الآية : ١٦٠.
(٣) سورة الشعراء ، الآيات : ٢٢١ ـ ٢٢٢.