بالفكر ، فيحتجب القلب بالرين عن قبول صفات الحق بالكلية ، وذلك معنى قوله : (إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً) بإخفاء القهر الحقيقي في هذا اللطف الصوري وتعبية عذاب نيران الحرمان وحيات هيئات الرذائل والعقارب السود ولباس القطران في هذه الرحمة الظاهرة.
(إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ) قد علمت أن الملكوت السماوية تنتقش بكل حادثة تقع في هذا العالم فكل عمل حسن أو قبيح يصدر عن أحد فقد كتب عليه في تلك الألواح وقد اتصل ملكوت كل بدن بتلك المبادئ الملكوتية فمتى هممنا بحسنة أو سيئة ارتسمت صورته في ملكوت أبداننا على سبيل الخاطر أولا ثم أخذنا في الفكر فيه ، فإن استحكم النقش وانبعثت منه العزيمة حتى امتثلنا الخاطر الأول بالإرادة الجازمة انطبع بإقدامنا على الفعل إلا أنه إن كان حسنة انطبع في الحال في جهة القلب التي تلي الروح ولوح الفؤاد المنوّر بنوره وكتبته القوة العاقلة العملية التي هي صاحب اليمين من الملكين الموكلين المشار إليهما بقوله تعالى : (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ) (١) إذ الفؤاد هو الجانب الأقوى منه وإن كان سيئة لا ينطبع في الحال لبعد الهيئة الظلمانية من القلب وعدم مناسبته إياها بالذات ، فإن أدركه التوفيق وتلألأ عليه نور من أنوار الهداية الروحانية ندم واستغفر فمحى عنه ، وعفى له ، وإن لم يتداركه بقي متلجلجا حتى أمدّته النفس بظلمة صفاتها فاستقرّ في لوح الصدر الذي هو وجه القلب الذي يلي النفس المظلم بظلمة النفس الغالبة عليه في صدور هذا الفعل منه وكتبته القوة المتخيلة التي هي صاحب الشمال إذ هذا الجانب هو الأضعف وهذا هو المراد من قولهم : صاحب الشمال لا يكتب السيئة حتى تمضي ست ساعات فإن استغفر فيها صاحبها لم تكتب ، وإن أصرّ كتبته. ويفهم من هذا التقرير إيتاء الكتاب بيمين المسلم وشمال الكافر ، وأما صورة الإيتاء وكيفيته فقد تجيء في موضعها إن شاء الله تعالى.
(إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) إلى آخره ، البغي ضدّ العدل ، فكما أن العدل فضيلة شاملة لجميع الفضائل وهيئة وحدانية لها فائضة من نور الوحدة على النفس فالبغي لا يكون إلا عن غاية الانهماك في الرذائل بحيث يستلزمها جميعا فصاحبها في غاية البعد عن الحق ونهاية الظلمة كماقال : «الظلم ظلمات يوم القيامة». فلهذا قال : (عَلى أَنْفُسِكُمْ) ، لا على المظلوم لأن المظلوم سعد به وشقي الظالم غاية الشقاء وهو ليس إلا متاع الحياة الدنيا إذ جميع الإفراطات والتفريطات المقابلة للعدالة تمتعات طبيعية ولذات حيوانية تنقضي بانقضاء الحياة الحسيّة التي مثلها في سرعة الزوال وقلّة البقاء هذا المثل الذي مثل به من تزين الأرض
__________________
(١) سورة ق ، الآية : ١٧.